...

 العيد الكبير

 

 

 

هل ينهي عيد الفصح كلّ جهادات المؤمنين الشرعيّة؟

سؤال يبدو نافرًا في سياق تعييدنا للفصح! فلقد تعوّدنا أن نتناول الفصح مناسبة فرح، تاجًا لموسم الصوم الجهاديّ الكبير، سكرًا صاحيًا. وعلى ذلك، يبقى هذا السؤال المطروح تعوزه إجابة.

أوّل ما ينبغي لنا أن نعرفه أنّ أعيادنا الكنسيّة كلّها أعياد تربويّة يُراد منها أن نمتّن حبّنا للربّ. إنّها تروي قصّة الله «الذي أحبّنا، فحلّنا من خطايانا بدمه» (رؤيا يوحنّا ١: ٥). وهذا ليس فيه تمييز ما بين عيد كبير أو صغير، أو حتّى أعياد القدّيسين. فكلّ عيد، يجمعنا طيبه إخوةً عابدين، ينقل إلينا أنّ الربّ يحبّنا حبًّا شخصيًّا. ولكنّ الأعياد كلّها هي، تاليًا، استباق، أو استدرار، للعيد الأخير الذي سيجمعنا الربّ فيه في ملكوته الأخير، أي هي، أيضًا، إيقونة ما ننتظره. بهذا المعنى، نحن في أعياد كاملة وفي مسيرة بآنٍ. نحن، في الكنيسة، نشدّ إلينا، في كلّ عيد، العيد الأخير، ونذوق من طيبه ما نستطيع أن نذوق منه. ولذلك استقرّ تراثنا، ولا سيّما ما علّمه النسّاك، على أنّنا، في الأرض، نحيا في رحلة موصولة باتّجاه ملكوت نصبو إلى اكتماله. نحن، في تحرّك دائم نحو الربّ الذي فينا والذي ينتظرنا فاتحًا يديه، ليضمّنا إليه أبديًّا.

هذا يحتّم أنّ الالتزام الكنسيّ التزام لا يتوقّف الجهاد فيه. وما يزيد ذلك إثباتًا أنّ الأعياد، في كنيستنا، موقّعة توقيعًا يدور. وهذا نسمّيه، ليتورجيًّا، دورات. عندنا، مثلاً، إلى الدور اليوميّ، دورة أسبوعيّة وأخرى سنويّة. وهاتان، في كثير من جوانبهما، تشبه إحداهما الأخرى. الدورة الأسبوعيّة قمّتها فصح يوم الأحد. والسنويّة الفصح الكبير. فالعيد عينه نتلقّاه أسبوعيًّا وسنويًّا. نأخذه، ونمشي إليه. إنّه أمامنا دائمًا. نخرج منه، لندخل فيه، أو ليدخلنا فيه، من جديد. وكلّ ما يهيّئ له، يعود هو عينه. الصوم، مثلاً. صوم يومَيْ الأربعاء والجمعة للفصح الأسبوعيّ (الأحد). والصوم الكبير للعيد الكبير (الفصح). وكما أوحينا، تنشر الكنيسة، على مدار السنة، أعيادًا لها نكهتها الفصحيّة. الفصح قائم كما لو أنّه فُلك تنقلنا إلى حيث يجب أن نصبو، أي إلى الفصح الأخير الذي يجري التعييد له في السماء.

هل هذا، فحسب، ما يحتّم استمرار جهادنا؟ لا، بل ثمّة أمر آخر توازي أهمّيّته أهمّيّة ما قلناه إلى الآن. وهذا أنّ مسرح أعيادنا هو قلبُ كلٍّ منّا. عندما قلنا إنّ أعيادنا تربويّة، كان قصدنا أنّ هدفها الأعلى أن نتوب إلى مَنْ أحبّنا أوّلاً. هذا، في تراثنا، هو تمتين المحبّة الوحيد (أو تجديدها). لا يعني شيئًا أن نعيّد، ونبقى نجترّ خطايانا. ولا يعني شيئًا أن نلتزم الكنيسة في أعيادها حصرًا. ما يعني، بل كلّ ما يعني، أن نعرف أنّ الأعياد، في عودتها المستمرّة، تعبير من تعابير أنّ الربّ، الذي يحبّنا، ما زال يرحمنا بفرصٍ يجب أن نعتبر كلاًّ منها فرصتنا الأخيرة. إن أردنا أن يستقيم تعييدنا لأيّ عيد كنسيّ، فليس لنا من سبيل سوى أن نعتبر أنّه، مقبولاً ومحييًا، عيدنا الأخير. وفي الواقع، هذا مصير نجاح كلّ وقفة لنا أمام الله، وكلّ عمل نبتغي فيه رضاه. هل نريد أن نصيب نجاحًا متى صلّينا، أو صمنا، أو عيّدنا، أو عملنا أيًّا ممّا يرضي الله؟ هل نريد أن يقبل الله ما نعمله من أجل محبّـته ومجده؟ فلنفعل ما نفعله كما لو أنّه آخر ما نفعله!

من صميم الجهاد الباقي أن نعلم بأنّ «صورة هذا العالم في زوال» (١كورنثوس ٧: ٣١؛ ١يوحنّا ٢: ١٧). قوّة المؤمن الفصحيّ تكمن في اقتبالِهِ حياةً هذه الكلمات الواقعيّة. فالفصح أن نعرف أنّ الربّ قد وعدنا بأرض جديدة وسماء جديدة. هذا من معاني أنّه قام، وأقامنا معه. نحن عدنا، غرباء في الأرض، نحنّ إلى موطننا الأفضل الذي هو في السماوات (عبرانيّين ١١: ١٣-١٦). هل هذا إعلان هجر لأرض ما زلنا نحيا عليها ولسماء ما زالت تظلّلنا؟ لعمري، لا، بل إعلان واعٍ أنّ المسيحيّة، كلّها كلّها، أن نبشّر بموطننا الأفضل. إن جاز لنا أن نميّز بين أشكال الجهاد، (وهذا أقوله أدبيًّا)، فالجهاد الفصحيّ أن نخبر الكون بأنّ الدنيا إلى زوال. فلنلاحظ أنّنا، إذا صمنا أو صلّينا مثلاً، فنحن نعلن، أو يجب أن نعلن، أنّ الدنيا إلى زوال. وهذا علينا أن نستمدّ من الفصح أن نكون بليغين فيه. كيف؟ بازدياد حبّنا للربّ أكثر فأكثر. إن كنت أعلم، فيجب أن أبقى أعلم بأنّ هذا القلب، قلبي، إنّما أوجده الربّ، ليخفق بحبّه فقط. لا قيمة لي إن لم يغدُ ربّي كلّ شيء لي. وإذًا، الأعياد تمارين، مرآة قلوب. تعرض عليَّ ما تعرضه، لأرى إن كنتُ أليق بفيض الودّ الذي خصّني الله به. هل نتصوّر أنّ ثمّة شيئًا، في الكنيسة، غير المحبّة؟ إن كنّا نفعل، فيجب أن نراجع ما نتصوّره. ليس من شيء آخر. كلّ ما في الحياة الكنسيّة كان، ليكون الله إلى قلبي الحبيب الوحيد.

أيّ عيد من أعيادنا دعوة إلى جهاد جديد. ليس جهادًا آخر، بل جديد. هل أقزّم التعييد للفصح أو لسواه؟ حاشا! فنحن لا يمكننا أن نعرف إن كنّا عيّدنا للفصح مثلاً، أو لم نعيّد لشيء، إلاّ إن أجاب كلّ منّا عن هذا السؤال الوحيد: هل أنا أحبّ الربّ فعلاً؟ إن أجبت: نعم أحبّه، فجوابي يقيمني في سير دائم باتّجاه عيد أخير أُعطيت أن أختبر طعمه هنا. المسيحيّة عيد، بأيّ معنى؟ بمعنى أن أركب هذه الحياة باتّجاه أعرفه. بعد الفصح، لم أبق تائهًا. غدوت أعرف وجهة رحلتي. الربّ فيَّ وأمامي. هذا برنامج رحلتي في هذه الحياة. حياتي رحلة. ويمكنني أن أصطحب معي كلّ مَنْ يشاء. يبقى أن أنطلق، أن تكون حياتي صياحًا: تعالوا نمشي معًا إلى الله الحيّ. فالذي أحبّنا ينتظرنا فيه. هذا، اليوم وغدًا، هو عيدنا الكبير.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 العيد الكبير