...

العام الجديد

 

في مذود بيت لحم، عينان تشعان بالنور، إنهما عينا المولود، ورأس الخليقة الجديدة، إن الأحلام التي انسابت مع الزمن تنور تحت الشعاع الوضاء، والكلمات التي تكدست في طريق الإنسان تشتعل بالضياء، ويشتعل معها الليل الثمل بروعة النجم، وتـنفجر ينابيع النور في روعة فياضة بالجلال والخشوع، ويغتسل القلب بشلالات الزوفى، وتـنقى الروح بنيران المحبة الممتدة تضحية عبر الأجيال.
من هذه الينابيع الدفاقة ولد عالم جديد، عالم فوق الطبيعة والمجتمع والتاريخ، عالم نور، عالم روح، عالم كمال، عالم عدل وحق ومساواة، عالم رفق ورحمة، عالم حرية ومحبة، ملكوت سماوي، إنسانية سماوية وبشرية تسير مرتبطة بأسلاك النور لتتم سيرها إلى النور الأزلي، عالم جديد يقوم على أعقاب عالم تحطم فكرياً وأخلاقياً، لقد تحررت فيه النفس من نيرها الثـقيل، وفكت الروح قيودها، وفتح الخيال أغلالها وقطعها، وأذابت النفس العالم الجليدي الذي كان يكتنفها، واتسع مجال الانفتاحات الذاتية، لقد كان الإنسان عالماً من الظلمة والقيود والأغلال، لأنه كان عالماً تجسدته الخطيئة من جراء الطمع والانحرافات الخلقية، وكان محتاجاً إلى هاد ومرشد، إلى معلم، إلى محبة منزهة عن الغايات والمنافع، كان بحاجة إلى من يرفعه، إلى من يفتديه ويخلصه من براثن الوحش الأسود، إلى من يشتريه بالدم الزكي، فكان الإله المولود محبة، والإنسان المولود بالدم حباً وفداءً، وكان التاريخ، تاريخ دم فيه قوة الخلاص، كل الخلاص، وقوة التجديد، كل التجديد، كان التاريخ الجديد المنفتحة أبوابه على باب الأزل، والمختوم بطابع الدم المجدد أزلياً لمن يريد التجديد، والموسوم بميسم الروح الكبرى المعتقة للزمن من وقـتـيته، والمخلدة لما فينا من مقدسات فكرية وأخلاقية.
في هذه اللحظة التاريخية التي نقف فيها أمام العام الجديد، بين أحلام تقضت وصارت ذكريات، وأحلام لم تنور بعد، تـشع عينا المولود الجديد لتفتحا الطريق من جديد، للذين يريدون أن يسلكوا بالإيمان والمحبة طريق الخلود التي شقها المخلص بصليبه الكريم، وعبرها المؤمن بالألم، ويعبرها كل من أراد ويريد الملكوت السماوي، والطريق هو الجلجلة، الاشتراك بالصلب، وشرب الدم الذي يحمل الطابع الفدائي الأبدي، والمجدد لكياننا المستمر بدون انقطاع، إلى أن يستقر الجميع في الغبطة الأبدية، في هذه اللحظة من العام الجديد، إذ تتجدد الآمال والأفكار والأحلام والأماني، بالرغم مما يخيب الآمال ويبدد الأحلام ويفكك الأفكار، من هذه القمة الزمنية ذات الوجه المزدوج، نرى الماضي ونعيش الحاضر ونرقب المستقبل، ونرى شخص صاحب العينين المشعتين يسير معنا ويرافقنا بمحبة وحنان ليكون لنا الطريق والحياة والحق، ويرافقنا جسده لنأكل منه ولا نجوع، ونشرب من دمه الكريم سر تجديدنا وانعتاقنا وتحررنا ولا نعطش، ونمسح عيوننا بنعمته الزاخرة بمواهب الأشفية والعطايا الإلهية، ونقدس حواسنا وميولنا بقداسة مقصده النبيل في الإنسان، حتى إذا ولجنا عالم الزمن قدسناه بقدسيتنا، وتقدس التاريخ وتقدست الميول البشرية والإنسانية قاطبة تقديساً تتجاوب أصداؤه في كل منعطف من منعطفات النفس البشرية، وتعانق الكون مع الكون، تعانق العالم الأصغر والعالم الأكبر عناقاً مكنياً صوفياً، وصار الزمن خادماً مطيعاً لقوة الخلق والإبداع فينا، وصرنا أغنية ملائكية مقاطعها الحمد وكلماتها التسبيح السلامي المقدس.
من هذه القمة الزمنية تتراءى كل آفاق الحياة وتقف ذكرياتها ضاحكة باكية، وضاءة متجهمة، باسمة كئيبة، ويسمع الأنين المتصاعد من أعماق الماضي البعيد، أنين النفوس التي سحقـتها الخطايا، وعويل الأرواح التي اكتوت بنيران القساة الخطأة، ونحيب الذين حطمتهم حقيقة الحياة وواقعها، ويلوح المستقبل بكل ما فيه من أسرار مجهولة، والإنسان مصدر هذا السر المجهول لأنه مجهول من ذاته، إلا أن الإنسان هذا المصارع والمكافح الأبدي والحالم الدائم بملكوته، يقف فوق هذه القمة غير آبـه بفشل اعتراه أو يأس وقف في طريقه، تحدوه عزيمة روحية للسيطرة على العالم ليحقق آماله، وإنه لمحققها إن هو اعتمد على إيمانه بالله، ووثق بأن إخضاع الكون هو للمؤمن الحقيقي، وأن المؤمنين هم الغالبون والمسيطرون على الحياة.
إن ابتسامة مفعمة بإيمان عميق تجعل من الحياة كأساً من الورد تـتقطر فيه أنداء الصباح، وإشراقة روحية واحدة كافية لتجمع إلينا الكون بكل ما فيه، وتجعل منه صفصافة وارفة الظل مخضلة يستظل بها المتعـبـون من طول الكفاح، ولغته واحدة إلى الغدير السماوي، إلى العينين الصافيتين، كفيلة بأن ترفعنا إلى معين البهاء والصفاء، وأن تفتح قلوبنا على المحبة مصدر القوة، والإكسير الذي يحول القلوب ويجددها، وذرة من الإيمان كفيلة بأن تحطم كل الحواجز القائمة بين إنسان وإنسان، وأن تجعله يسيطر على مغالق الكون، وأن يقول لجبال الآثام والمعاصي انتقلي واغتسلي في بحر الرحمة والغفران، فتـنـتـقل لتعود بيضاء نقية كالثلج.
إن العام الجديد يطل علينا فلنستقبله بهذا الإيمان الإلهي، ولنلجه بقلوب مفعمة بالمحبة والسلام، ومزودة بخبز الحياة، وبدماء التنقية التي أريقت معطرة بالتضحية والفداء والمحبة لخلاص الإنسان، وتحرره وتجديده، ولنجعل منه عام سلام، عام محبة، وهذا ينيرنا نحن لأننا نحن الذين نشوه وجه الحياة، ونحن الذين نزيد في جماله جمالاً، وكل شيء متوقف على حرية الاختيار فينا وعلى مفهومنا العميق لسر التجسد الإلهي، والغاية منه وما يهدف إليه في الإنسان، فإذا أردنا العام عام سلام ومحبة، كان هذا العام، أما إذا أردناه عام فوضى عام بشاعة عام شر، كان هذا العام، وكان الإنسان ضحية لإرادته المريضة.
فليكن عامنا كما نريده في أحلامنا، وقد جنحها السيد المولود، وينقلب تفكيرنا إلى الناحية الخيرة الأصيلة فينا، لنرعى خيرنا ونحصد من ثماره ما يزيد في ثرواتنا الروحية العميقة، وهكذا نكون قد ولجنا العام الجديد كما يجب أن نلجه، ولنا من ضعفنا وأخطائنا ما يساعدنا على تجنب هذا الضعف لنكون كاملين كما أن أبانا كامل هو، وبالجسد والدم المقدسين نضع يدنا على سر كمالنا وتقديسنا، ونشارك بالصورة والمثال الذي فينا في عملية الخلق الإلهي.

 

عن مجلة النور، العدد 2، 1957، ص 35 .
عظة ألقاها مطران حلب وتوابعها الياس (معوّض) في أول كانون الثاني سنة 1957 في كاتدرائية حلب.

 

 

 

 

 

 

العام الجديد