...

الصّحراء الدّاخليّة!.

 

   الصّحراء الدّاخليّة، في القاموس الرّهبانيّ، هي عمق الصّحراء. عند الرّهبان، هي رمز الموت. النّسَّاك الكبار جذبتهم البرّيّة، والدّاخليّة، بخاصّة، لأنّ بغيتهم كانت الجهاد ضدّ الموت في مَن بَذرَ الموت، أصلاً، أعني إبليس! أرض الموت، في الاعتبار التّراثيّ، هي أرض إبليس بامتياز، لا بل عقر داره. عرش إبليس، إذًا، كان في الصّحراء الدّاخليّة. في القبور، أيضًا، كان؛ لكنَّ القبور كانت أدنى إلى المستودعات “الصّحراويّة” الموائتيّة بين النّاس! القبور كانت مواضعها خارج مواطن الأحياء، وكانت مواقع نجسة في الاعتبار، لا يتردّد عليها إلاّ النّجسون، تجّار الموت وعشراؤه، سرَّاق الأموات والممسوسون! قالوا في مسيس الموتى نجاسةً، وجعلوا للأحياء أحكامًا وشرائع اجتنابًا لخلطة الحياة بالموت، كما لاتّقاء عدواها، تحت طائلة القطع إن خالفوا!.

   على نحو عاديّ، شظفُ الصّحراء الدّاخليّة لم يكن ليُفسح في المجال لأحد من الآدميِّين أن يستوطنها. فقط، يعبرون بها، رُحَّلاً، متى اضطرّوا. الفكرة، رهبانيًّا، كانت أنّه ليس مَن يُقلق إبليس في موطنه، في الأرض، في بقعة الموت وظلاله!.

   هذا الواقع تحدّاه النّسّاك باسم الله، غيرةً عليه وتنقية، فاقتحموا أكثر المواضع، نأيًا، في البرّيّة، ليطردوا إبليس منها، ليطهِّروها ويثبِّتوا سيادة المسيح المحبّة عليها، كجند يَمدّون سلطان مليكهم! قاوموا إبليس لا بقوّة الخبز طعامًا، بل بقوّة الكلمة الإلهيّة! أقاموا جوعى، عطاشًا، في لهب الشّمس، في عِشرة الحيّات والعقارب، خِلوًا من كلّ تعزية أرضيّة بشريّة. كفايتهم كانت من فوق، وكذا حفظُهم وتعزيتهم. امتشقوا الكلمة سيفًا لأنّه قيل لهم، وهم آمنوا، أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله! رجاؤهم ندّاهم في عمق الأتّون! ما أرهبتهم الأبالسةُ الّتي بلغت حِدّةُ مقاومتها حدَّ الظّهور، وجهًا لوجه لهم، والفعل الحسِّيَّين، لأنّ سيّدهم نفحهم أن يُخرجوا الشّياطين باسمه ويحملوا الحيّات، وإن شربوا شيئًا مميتًا فلا يضرّهم! أمّا عزاؤهم فكان أنّه أَدخلهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً لمّا بسط ملكوته لهم، وبعدما أسبغ عليهم المنّ والسّلوى في الصّحراء، عربونًا لعنايته الحثيثة والمتواترة بهم! وقدّم لهم نفسَه، بالأَولى، نموذجًا وطريقًا، لمّا أُخرج إلى البرّيّة من روح الرّبّ، فجاهد الأربعين جهادًا كاملاً شرعيًّا، حتّى انفكّت عنه الأرواح الخبيثة، وجاءت الملائكةُ وصارت تخدمه! على كلمة ربِّهم، ألقى النّسّاكُ، صادةُ النّعمةِ الإلهيّة، شباكَهم في الصّحراء الخاوية، فأصابوا، في العمق، سمكًا كثيرًا! ساروا من محبّة إلى محبّة إلى الله المحبّة!.

   الحكاية قديمة! بَدؤها كان في السّقوط، حتّى نبقى في حدود الكلام على بني آدم، في معاناتهم. مذ ذاك، وقلبُ الإنسان حلبة صراع، ساحة حرب، بين روح الله الّذي، رغم السّقوط، ما انفكّ في انتظاره، ويبقى، حتّى يتوب الإنسان إليه، فيتوب ربُّه عنه، لأنّه أحبَّه، والمحبّة لا تُخلي أحدًا أبدًا! وإبليسَ الّذي أضلّ الإنسانَ بسماح من الله، حتّى لا يكون الإنسانُ إلى ربّه إذعانًا أو كَرْهًا! لكَ، يا ابن آدم، أن تَخرجَ عن ربِّك! ما أنا بحابس عنك النّأي عنّي حتّى لا يبقى في روحك أثرُ فكرٍ أنّي فارضٌ نفسي عليك، وحتّى تدرك أنّي جعلتك في الحبّ صنوًا! تأتي إليّ بكلّ جوارحك، أو ارتحل إلى بلاد بعيدة، إن شئتَ! لك أن تذهب لأنّي ما خلقتك إلاّ عديلاً، على صورتي، في الحرّيّة؛ ولك أن تتوب إليّ، فأذبحَ لك، إذ ذاك، العجلَ المسمَّن لأنّي، في كلّ حال، أحببتك وأحبّك، وأنت كنت وتبقى ثمرة حبّي فيضًا لأنّي محبّة! تغادرني، يا ابن آدم، وما أُغادرك!.

   الصّراع في قلب الإنسان، في العمق، ليس بين الله وإبليس، في الحقيقة! إبليس يُباد بنفخة فم الله، لو شاء ربُّك! الصّراع هو بين هوًى يشدّ ابنَ آدم صوب الشّرّير، بعدما أضحى لهذا الأخير موطئُ قدم في نفس كلّ إنسان، فبات ابنُ آدم إلى إبليس مائلاً عَفوًا؛ وألمٍ يشدّ البريّة إلى باريها لانطباعها عليه خَلْقًا، ما يجعل هواهم، في السّقوط، محطَّ خيباتٍ وفراغٍ كيانيّ محبِطٍ أبدًا، من حيث يَعد الشّرّيرُ بما هو، إلى الهاوية، دون ما يُشبع توق الإنسان إلى المعالي، حتّى تأتي ساعةٌ يدرك فيها الإنسان أنّه بات عشير الخنازير، ولا إن اشتهى أن يقتات من خرنوبها المرّ يعطونه! وإنّما يصطادك الشّرّير بشصّ المتعة إلى شبكة الغربة، فإلى العبث، فإلى الجوع، فإلى المهانة، فإلى الموت! رحلتُه بك هي إلى الصّحراء الدّاخليّة في قرارة نفسك حتّى لا يبقى فيك نبْضٌ يحدِّث عن ربِّك فتموت عطشًا! هذا مخطّطُه ومشروعُه تمويهًا!.

   إلى هناك، إلى البرّيّة الكيانيّة الدّاخليّة الّتي اقتادك إبليسُ إليها، أتاك ربُّك ويأتيك، باحثًا، أبدًا، عن خرافه الضّالة المضلَّلة! لِمَ تركك تشقى إلى المنتهى، ثمّ أتاك؟ لكي لا يكون لك، من بعد، ما تفتخر به إلاّه! لأنّ بهاء المحبّة إثر عتمات الخطيئة اشتدادُه! النّور يسطع، على أبهى ما يكون، بعد بهيميّة اللّيل! ولكي تدرك، في خلاياك، أنّ الخطيئة لا تُجدي، فلا تعود، من ثمّ، إليها! وكيف لا تعود إليها؟ أما تنسى بمرور الزّمن؟ خطيئتي أمامي في كلّ حين، لا فقط لكي أرتدّ إلى البِرِّ ههنا، بل، بالحريّ، لكي لا أنسى، هناك، أيضًا، أنّي لا آتي الحياةَ الأبديّة من خطيئة بل من نعمة الله! وما يُنسيني ربّي خطيئتي إلى الأبد ولو غفرها لي، لكي لا أعود إليها! الصّحو الرّوحيّ ينعش الذّاكرة، أبدًا! لأنّه يحبّني جعلها نصب عينيّ! نسيانُ الخطيئة وراء كلّ خطيئة! لذا أسعى لأن أَرُوض نفسي على ذاكرة الإثم، فلا أنسى لا معناها وفراغَها وذُلَّها وخِداعَها، حتّى لا أرتدّ إليها، لا هنا ولا في الدّهر الآتي!.

   طُرد آدمُ وحوّاء من الفردوس! العود المغروس على مجاري المياه وورقُه لا ينتثر (المزمور الأوّل) لمّا يَعُدْ! شُلِح آدمُ في البرّيّة! برّيّة الأرض! برّيّة النّاس! برّيّة الجسد! ميزة الفردوس، قبلاً، كانت أنّ الله متّعه بمحبّته! في البرّيّة بقيت محبّة الله، لأنّه لا طاقة للإنسان على الثّبات من دونها! تصرف وجهك فيضطربون، تنزع أرواحهم فيفنون، وإلى ترابهم يرجعون! ولكنْ، باتت الحياة شوكًا وعرقًا! سُلِّم آدمُ لحركة الموت في داخله! أنت تراب، يا أيّها الإنسان، وإلى التّراب تعود! الخطيئة، فيه، صنعت هذا! محبّة الله للإنسان أضحت قرينة الشّوك والعرق والموت! ما عاد الإنسان قادرًا على تعاطي ثمار المحبّة إلاّ بالوجع! بالوجع تلدين أولادًا (تكوين)! ما عاد الإنسان يُنجب صلاحًا إلاّ بالألم! المعاناة من أجل الآخر باتت ضرورة وإلاّ لا يأتي خيرًا! إمّا تعاني من أجل الآخر أو تجعل الآخر يعاني من أجلك! الخيار بات أن تُحبب، ولو بألم، أو أن تستغلّ بإيلامٍ! أن تبذل نفسك من أجل النّاس أو أن تبتذلهم! أن تشهد للحبّ بدم نفسك أو أن تُهرق دماء النّاس لمحبّة نفسك! إمّا هذا وإمّا ذاك! ولا ثالث! وإلى الألم، اقترن الحبّ بالتّعب! لا محبّة تُتعاطى إلاّ إذا تعبتَ من أجل الإخوة! والتّعب من أجل الإخوة معناه أن تعمل من أجل أن تريحهم! تُرحْهم ترتَحْ! تعمل على إراحة نفسك غير مبالٍ بهم تتعب، تمرض، تقلق! تتألّم، تتعب من أجل المحبّة، تُقِم المحبّةُ فيك! وحيث إنّ المحبّة أقوى من الموت لأنّها أمّ الحياة، فالموت النّاجم عن الخطيئة – بالخطيئة دخل الموت إلى العالم -، متى سلك المرء في تعب المحبّة وألمها، يمسي الموت مركبةً للمحبّة، ومن ثمّ سلّمًا للحياة الأبديّة!.

   كلّ إنسان مولودُ خطيئة! بالخطيئة ولدتني أمّي! بالخطيئة تصحَّرت الخليقة! دخل الإنسان في صراع مع الأرض! بات يُنهكها وينتهكها! يغتصبها اغتصابًا! الحركة، بإزائها، باتت استنفادًا واستهلاكًا! يهْدِم الإنسانُ بيته! أخذت الأرض تَفرغ من خبزها! وكذا دخل الإنسان في عداء مع النّاس! فبات الواحد يعتصر الآخر ويذلّه إذلالاً كبيرًا حتّى يلغيه! والحركة أضحت أن يُفني بعضُهم بعضًا! وكلٌّ يتجسدن ويتنفسن، كأنّ لا روح له، فيستحيل آلة استهلاك بلا قلب! تيبس خضرة الحبّ والخَلْق يتصحَّر!.

   البرّيّة الدّاخليّة صورةٌ لبرّيّة القلب! انتفض النّسّاك فاقتحموها لأنّهم التمسوا اخضيضار يباس الكيان بالحبّ! النّسك، في عمقه، نبذٌ لعشق الذّات، موتٌ عن النّفس، خروجٌ من الصّحراء الدّاخليّة للقلب! خَرج النّسّاك إلى الصّحراء الدّاخليّة أو لم يخرجوا، على كلّ واحد أن يخرج من ذاته بنسك الحبّ، لا محالة، حتّى تستكين الأرضُ ويعود لها اتّزانها، ويسودَ السّلام بين النّاس، ويستقرَّ القلبُ في فرح الله، وإلاّ يَمضي الإنسانُ إلى هلاك أبديّ!.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

عن “نقاط على الحروف”، 9 تشرين الثاني 2014