...

الصبر والاحتمال في خبرة التعليم المدرسيّ

التربية فنٌّ وإيقاع، صبرٌ واحتمال.

بعض الناس يصنع الشموع وبعضهم يضيئها، فصانعها لا يهتمّ إلّا ببيعها والاستفادة من ثمنها، أمّا مضيئها فله هدفٌ آخر.

فمهنة الثاني هي حجر الأساس في إنارة المنازل والقلوب. وإذا كانت تربية الأجيال في نطاقها الواقعيّ تتطلّب إنارة الفكر وإشعال القلوب، فإنّها تتطلّب شموعًا تُضاء على مذبح الصبر والجهد والتضحية.

يُشبه المربّي هذه الشموع، فهو ينير ظلام الجهل في عقول الناشئة، وكلّما أنارهم أذاب نفسه شيئًا فشيئًا على مذبح أهدافهم السامية.

والتربية عمل شاقٌّ وما يزيد في مشقّته إدراك الطرفين المربّي والمتعلّم أنّ محو العتمة مستحيل، ولكنّ قبس النور الساطع قد يتحوّل إلى شمس مشرقة في المعرفة وفي الخيال وفي التصرّف. ولهذا ترتدي هذه المهنة ثوب العطاء والبذل والصبر والاحتمال. فأن تحترق لتنير الدروب، رغم الصعوبات والعراقيل يجعل منك إنسانًا مختلفًا، إنسانًا تقترب من الجمال والكمال، تقترب من الله.

ولعلّ التربية تتطلّب موهبةً من المربّي، إذ هي فنٌّ أيضًا، فلا يكفي نقل معرفته إلى أدمغة طلّابه، بل عليه أن يجيد إتمام عمليّة النقل بسلاسة وإقناع، وعليه أن يبسّط حيث يجب التبسيط، وأن يفكّك العقد الصعبة حيث يجب تفكيكها.

عليه أن يصبر على الأذهان فليست كلّها مؤهّلة للاستيعاب من المرّة الأولى، كما عليه أن يضحّي ويجهد في تكرار الشرح والتنويع في الطرح حتّى تختمر المعرفة التي ينقلها إلى عقول المتلقّين، فهو كمن يلقي البذار في التربة.

إنّها موهبة تعطى من علُ، وقدرة على التكييف.

فالمربّي كالراقص على المسرح، عليه أن يجيد الاقتراب والابتعاد، وأن تكون خطواته مدروسة مع الجميع. وهو كالعازف عليه أن ينقر على مفاتيح العقول ليخرج الأنغام المطلوبة، وهو كالنحّات عليه أن يحفر فيهم وينقش المعلومات حتّى لا تضيع.

هو كلّ ذلك وأكثر، إذ إنّنا لا ننسى سهره المضني على التحضير وتعبه في التصحيح والتزامه في إيصال فلذات أكبادنا إلى ما يصبون إليه من أمنيات.

في خضمّ هذه الأزمات التي نعيشها اليوم، أكثر ما نخشى عليه هو قطاع التربية، فإذا انهارت التربية انهار الوطن. فالتربية ليست مجرّد رواتب تدفع للأساتذة في آخر كلّ شهرٍ، كما هي ليست أقساطًا تحصّلها إدارات المدارس من الأهل. إنّما هي عمليّة أسمى من ذلك كلّه. هي باختصار إعطاء الحياة صفاتها الحقيقيّة.

فلنقف يدًا واحدةً وقلبًا واحدًا لتخطّي هذه الأزمة، ولنكن مضيئي شموع ومساحات أنوار على امتداد الوطن.

 

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصبر والاحتمال

في خبرة التعليم المدرسيّ