...

أيّها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام!. (١ يوحنّا ٥: ٢١)

 

 

 

   كلّ تعلّق بغير الله صنميّ؛ وكلّ ما يتعلّق به الإنسان، من دون الله، هو صنم، هو وثن، كائنًا ما يكون، حيًّا أو جمادًا. التّعلّق من العلاقة؛ ولا علاقة، إلاّ علاقة المحبّة. وحده الله محبّة. لذلك، لا تستقيم علاقة، إلاّ بالله. ومن دون  الله، كلّ علاقة هي خالية من المحبّة ولو بدَتْ غيرَ ذلك. لذلك، الإنسان فيها يسلك في الذّلّ؛ لأنّه خُلق، أساسًا، لكي يحبّ. قلبٌ هو!. فإذا ما أحبّ أشياء، أو إذا ما أحبّ كائنات مائتة؛ فإنّه، في الحقيقة، يكون ذليلاً حقيرًا!. الكرامة، يا عبدُ، من القلبِ!.

   الإنسان الّذي يحبّ الله يقاربه كعبد. أجل، نحن نقارب الله كعبيد!. الحبيبُ يستعبدُ نفسَهُ لحبيبه!. هكذا علّم عبدُ الله في أشعياء!. هذا لا يعني أنّ الله يجعلنا عبيدًا؛ بل نحن نقاربه، إراديًّا، كعبيد. وهذا الفعل، بدل أن يكون  عبوديّة، يكون عبادة. هذه هي العبادة الحقّ. والإنسان، في مقاربته الله، يجعل نفسه عبدًا بإزاء الله؛ لأنّه يعي، في نفسه، أنّه يأتي من العدم؛ يعي، في قرارة نفسه، أنّه تراب ورماد. لذلك، يتّضع حتّى الحضيض، بإزاء الله؛ فيرفعه الرّبّ الإله، بمحبّته؛ ويجعله ابنًا له. أمّا ما نتعلّق به، في هذا العالم، فإنّ تعلّقنا يجعلنا في موقف العبادة لِما ولِمَن نتعلّق به. ومثل هذه العبادة هي العبوديّة عينها. والإنسان، في الحقيقة، في عبادته الله، إنّما يعبد الله في نفسه. المسيحُ يُمسي حياتَه. لذا يعتبر نفسه “لا شيء” بإزاء الله. وهذا يجعله يلتمس هويّة لنفسه، بالانتماء إلى ربّه. فإذا ما كان ربّه فيه، فإنّه، إذ ذاك، يكون موجودًا، يكون حيًّا، يصير من معدن الله. وإذا كان الله محبّة، فالإنسان، إذ ذاك، يصير، أيضًا، محبّة. أمّا إذا ما تعلّق الإنسان بما في هذا الدّهر، من دون الله؛ فإنّه، في الحقيقة، يتعاطى أصنامًا. الصّنميّة جذورها في قلب الإنسان، لأنّ الصنّم بإمكاننا أن نحدّده على النّحو التّالي: هو أن يطلب الإنسان ما لنفسه، في كلّ شيء، وفي كلّ أحد. وهذا ما يعادل القول إنّ الإنسان، بعبادته أَشياء هذا الدّهر، إنّما يعبد، في الحقيقة، نفسه من دون الله؛ ولا يشاء إلاّ أن يكون هو إلهًا أوحد لذاته، وكأنّ له حياة في ذاته، وما له حياة.

   في ضوء ما تقدّم، بين الله والإنسان صراع!. الله يريد أن يعطي ذاته، بالمحبّة، للإنسان. وقد صارع الرّبّ الإله من أجل هذا القصد، إلى المنتهى، حتّى الموت. لذلك، بذل الله ابنه الوحيد، لكي “لا يهلك كلّ من يؤمن، به بل تكون له حياة أبديّة”. إذًا، الله يصارع، من أجل أن يعطي ذاته للإنسان، حتّى الموت!. في المقابل، الإنسان يتمسّك بعبادته نفسَه، حتّى الموت!. لذلك، الله والإنسان في صراع دائم. لا يشاء الرّبّ الإله أن يتخلّى عن الإنسان، لأنّ المحبّة  لا تتخلّى عن نفسها. والإنسان مخلوق محبّة، فيضٌ من محبّة الله. لكنّه يصارع إلى المنتهى، لكي يبقى متمسّكًا بما لنفسه، عابدًا ذاتَه، صغائرَه، تفاهاتِه. لهذا، أعطى الرّب الإله الإنسانَ، لأجل المفارقة، أن يخلص بالسّقوط؛ لأنّ السّقوط، الّذي عنى الانقطاع الكيانيّ للإنسان عن الله، ألقى الإنسان في حمأة الألم، والمعاناة، والضّيق!. السّقوط ألقاه في الموت. ما هو الموت؟ ليس هو العدم؛ إنّما هو، إذا أردنا أن نحدّده بدقّة، اللاّحبّ!. إذا كان الله هو الحياة، فلأنّه محبّة. وحيث “لامحبّة”، فهناك “لاحياة”. اللاّحياة هي الموت، لأنّ الإنسان الّذي يذوق الموت – وأتكلّم على كونه يذوق الموت، لا فقط في مستوى البشرة، بل في مستوى الحقيقة الكيانيّة الّتي خُلق عليها – يكون، في الحقيقة، قد تغرّب، بالكامل، عن محبّة الله. ولا يمكن إلاّ أن يكون التّغرّب عن الله كاملاً. لذلك، قولة الرّبّ يسوع هي: “مَن آمن بي، فلو مات سيحيا”. وهنا، يتحدّث عن موت الجسد، الّذي سوف يُستردّ ممجّدًا، في المجيء الثّاني. “مَن آمن بي، فلو مات سيحيا. ومَن كان حيًّا، وآمن بي؛ فلن يرى الموت إلى الأبد”. هنا، يتحدّث عن الإنسان الّذي يمتلئ حياة، لأنّه يمتلئ حبًّا لله!. الإنسان الّذي يحبّ الله هو إنسان يعبر بالموت كما يعبر النّائم بالرّقاد. من هنا تسمية الموت رقادًا.

   إذًا، السّقوط كان للخلاص. لو لم يكن هناك سقوط، لما كان هناك إمكان خلاص؛ لأنّ الإنسان خلقه الرّبّ الإله حرًّا من أجل أن يستجيب لمحبّة ربّه بمحبّة. ما كان يمكن الرّبّ الإله، في خلقه الإنسانَ، إلاّ أن يخلقه حرًّا؛ ما يعني أنّ الإنسان، بوعيه حرّيّتَه، ولو للحظة، وعى أنّ فيه شيئًا من الله، شيئًا عظيمًا جدًّا، وهذا قد يدفعه إلى الله، وقد يدفعه عن الله. وإذ اندفع الإنسان عن الله، بالشّيطان – الحيّة، أُلقيت البشريّة، خارج الفردوس، إلى ملء الزّمن، الّذي يكتمل فيه وعي الإنسان أنّ حرّيّته، ما لم يحبِبْ، إنّما تلقيه في الجحيم!. كلّ ما نختبره، على الأرض، أكثره ذوق للجحيم. والإنسان، بلا شكّ، يتعزّى ببقايا خليقة الله بِكرًا، هنا وثمّة. لكن، كلّ شيء يتخلّله السّقوط، ومن ثمّ يستحيل مادّة جحيميّة. امرأة جميلة، جمالها من الله. لكنّها، بسهولة، تستحيل مضغة لحبّ المال وروح الزّنى. جمالات هذه الأرض من عند الله. لكنّها، بسهولة، بسبب سقوط الإنسان، يستأثر بها الطّمع والجشع، ويكون كلّ واحد مستعدًّا لأن ينقضّ على أخيه؛ لكي يخنقه، ولكي يستأثر بما في الأرض. أما هكذا فعل قايين بأخيه هابيل؟!. هذه قصّة البشريّة. في حبّه لذاته، الإنسان يريد كلّ شيء لنفسه. وكلّ ما لأخيه يكون موضع حسد لديه. لذلك، التّاريخ تاريخ فشل بشريّ ذريع!. هناك لعنة يتوارثها البشر من جيل إلى جيل. التّلفيق في كلّ شيء، لأنّ الإنسان لا يشاء أن يتنقّى، أن يتطهّر. يريد لنفسه كلّ شيء. حتّى علاقته بالله تبقى علاقة تلفيق، إلى المنتهى. لذلك، صرخة الرّبّ الإله كانت: “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات”. نعبد الله؟. في الحقيقة، نعبد بالأكثر، أنفسنا في الله، نحيل الله صنمًا. لذلك، نعمته لا تفعل فينا. لماذا أُعطيت الشّريعة؟. الشّريعة كانت مؤدّبنا إلى المسيح. الإنسان كان بحاجة إلى تأديب. الرّبّ الإله أدّبه، لأنّه ابنه، لأنّه يحبّه، لأنّه يريد أن يخلّصه، لأنّه يريد أن يغتصبه من عبادته لنفسه، من عشقه لذاته. من هنا تنبع كلّ الآلام، وينبع كلّ القلق، وتنبع كلّ المعاناة… وكلّ شيء يصير مختومًا بختم الموت. كلّ هذا لأنّ الإنسان لا يشاء أن يحطّم أصنام نفسه. يكذب في كلّ شيء، لأنّ الكذب بات سيرة لديه، في كلّ ما يفعل، ويفكّر، ويقول. الرّبّ الإله في إثرِه، عن كثب، يؤدّبه بالكلمة، بالإعراض، بالرّحمة… يسلّمه إلى أعدائه، يستردّه منهم… لا يترك الرّبّ الإله أسلوبًا إلاّ يتّبعه التماس أن يتأدّب مخلوق محبّته، وهو لا يشاء أن يتأدّب!. لذلك، كان الموت لطفًا، من عند الله؛ حتّى إذا ما كان الإنسان ليرزح، في عبادته لنفسه، كمُقعَد، يصير له، أقلّه في ساعة الموت، أن يكون في منتهى الضّعف، في منتهى العجز؛ لكي يعرف نفسه على حقيقتها!. إذ ذاك، أقلّه، يكون الرّبّ قد أعطاه الفرصة، كاملةً، أن يكفر بنفسه، أن يعي أنّه ضلّ، وأنّه أنفق نفسه وحياته في رعاية الخنازير الفكريّة، وفي عبادة الأصنام الصّمّاء، في نفسه. فإذا ما وعى، للحظات، كلصِّ اليمين، أنّ حياته كلّها كانت سلسلةً من الفشل، الّذي آل به إلى الموت؛ فإنّه، إذ ذاك، تكون له فرصة الفرص أن يصير كالابن الشّاطر، أن يعود إلى أبيه: “أخطأت إلى السّماء وأمامك؛ ولست، بعد، مستحقًّا أن أدعى لك ابنًا”. هنا، لم يدعه أبوه يُكمل القولَ، بل انقضّ على عنقه، وشدّه إلى صدره. إذا كان يوحنّا قد اتّكأ على صدر السّيّد، فالبشريّة الرّبّ الإله يشدّها إلى صدره شدًّا؛ إذ يكون فرح عظيم، في السّماء، بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة.وهؤلاء ليسوا موجودين، في الحقيقة؛ فقط، ليقول لنا الكتاب إنّ الرّبّ الإله، الخالق، والكلّيّ القدرة، والضّابط الكلّ، يجيّش ذاته، ومحبّته، وألطافه، وملائكته، من أجل مخلوق قزم، ولو واحدٍ، مطروحٍ في أقصى الأرض، يتمرّغ في الحمأة!. السّماء تنتظره ليصرخ: “أللّهمّ، بادر إلى معونتي. يا ربّ، أسرع إلى إغاثتي”. إذ ذاك، يبادر الرّبّ الإله، بنفسه، في ملائكته، يبادر في كلّ شيء، في قدّيسيه؛ لينتشل مخلوقه من الحمأة، من النّجاسة؛ لكي يغسله بنوره، ويعطّره بمحبّته؛ لكي يلبسه الحلّة الأولى؛ لكي يبسط له المائدة السّماويّة؛ “لأنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاًّ فوجد”. لذلك، كان لا بدّ للسّماء من أن تفرح. هذه لغة المحبّة. هذه لغة مَن أفاض محبّته في هذا المخلوق التّافه، في ذاتِه، الّذي هو الإنسان الّذي رفعه الرّبّ الإله، وأجلسه عن يمينه بابنه، وجعله ابنًا، وأورثه الحياة الأبديّة.

   صومُنا، اليوم، مذاق من الصّوم الأعمّ للإنسان عن نفسه، في مسارّ تحطيمه أصنامَه الدّاخليّة، إلى أن يصير المسيحُ الكلمةُ خبزَه الأوحد!.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

عن “نقاط على الحروف”، الأحد 20آذار 2016

 

 

 

 

 

 

أيّها الأولاد
احفظوا أنفسكم من الأصنام!.

(١ يوحنّا ٥: ٢١)