...

أنت والله حكاية صراع!.

 

 

 

 

 

   عندك تاريخ يحكي عمل الإنسان في أزمنة النّاس يؤول إلى تباب، وعندك تاريخ يحكي عمل الله في البشريّة يؤول إلى الأبديّة. طبعًا، هذان يتداخلان ولا ينفصلان، أحدهما عن الآخر، فقط يتمايزان. الأوّل تاريخ أحداث وتيّارات، والثّاني تاريخ خلاص. ذاك يتشكّل من نفوس تتفاعل وتتصارع ويطيح بعضها بعضًا، وهذا يتأتّى من روح الله يخمِّر وجدان الإنسان عبر تلك الأحداث والتّيّارات ليقيمه، منذ الآن، في اليوم الأخير!. ما يأتيه الإنسان، مهما كان، يصدر من قلبه، نورًا أو عتمة، حقًّا أو ظلمًا، ودادًا أو عشق ذات، أفعالاً أو ردود أفعال؛ وما يأتيه الضّابطُ الكلّ، أنّى كان واقع الإنسان، تحويليّ الطّابع؛ ما تلطّخ ينقّيه، وما خبث يجعله للمنفعة، كما تُحوَّل النّجاسات أسمدة. لا فضل للنّجاسات بل لِمُسْمِدِها!. ربّك يؤدِّب النّاس بالنّاس، ويهذِّب النّفوس بالألم والمعاناة. إذا كنت من العارفين قلت مع الرّسول بولس إنّه جهَّل حكمة هذا العالم وجعل ما للعثرة والجهالة، في حسبان العالم، حكمة وحمّالة لحكمة الله!.

   لو حاولتَ، بشريًّا، أن تجد معنى لما يجري، أو أن تستخلص منه قيمة، لعجزتَ. ما يطالعك عبثيّ!. ثمّة ميل عند العديد من الدّارسين إلى الظّنّ أنّ الأجناس الذّكيّة من الخليقة مهدَّدة، لذكائها، بأن تصل إلى حدّ تدمِّر فيه ذاتها بذاتها!. فلا غرو إن هتف كاتب سِفر الجامعة في شأن الأرض، والإنسانُ في وسطها: باطل الأباطيل، كلّ ما تحت الشّمس باطل!. المعنى، في الحقيقة، كامن في تدبير مَن هو ضابطٌ، بيده، كلَّ شيء: ربّك!. طبعًا، كما لا يمكنك أن تفهم كيف أنّ الخليقة خرجت من العدم، لا يمكنك أن تفهم كيف يُخرج ربُّك روائع ممّا يطالعك، في عالمك، كأنّه سِقْط!. عمل ربّك الخلاّق، أبدًا، ليس لك برسم الفَهْم بل برسم الاقتبال!. أنت لم تولد من فهم!. ولادتُك كانت من دونك!. قدرتك على الفهم حُبِيتَ بها ليكون لك أن تستمرّ في الحياة على الأرض، بمعالجة ما هو قابل للمعالجة ليصير لك خبزًا لنفسك وجسدك، ولكن ليس من دون نعمة ربّك؛ ونعمتُه محبّتُه، ومحبّته إيّاك، لأنّك قلب!. لذا المعرفة الحقّ لا تأتيك فهمًا بل ودادٌ وخبرةُ وداد!. الحكاية أنّ حياتك ليست منك، تعطاها عن محبّة!. ليست غاشمة!. تردّك دائمًا إلى معطيها، ومعطيها ليس بشرًا!. البشر يمرِّرونها!. معطيها ربُّك، من وعي لأنّه كائن، ومن محبّة لأنّه محبّة!. من هنا كون الإنسان قلبًا من قلب، على الصّورة والمثال!. أمّا أنت في ذاتك فحياتك من عدم!. هي لك ما دام ربّك إليك وأنت إليه!. هكذا كان آدم وحوّاء في الفردوس!. في ذاتهما عدميّان، لكن وهج وجه ربّهما انبثّ فيهما دفءَ حياة، طالما أطاعا!. الطّاعة من المحبّة!. تبدأ خوفًا وتكمل بديهةً!. ومتى صارت بديهةً زال الخوف!. المحبّة تطّرح الخوف إلى خارج!. من ذا تأتي المعرفة الحقّ!. ومن ذا يأتي المعنى، وكلّ ما عداه عبث!.

   بعدما خطئ الإنسان، أي بعدما انفكّ رباط علاقته بالله، ارتدّ إلى شبه العدم!. ما عَدِم الوجود!. استمرّ موجودًا، ولكنْ، صار وجودُه عدميًّا!. الوجود العدميّ مستجِدّ في تاريخ البشريّة!. لا هو وجودٌ في الملء، ولا هو عدمٌ بالكلّيّة؛ أي لا وجود!. هذا كان من تدبير ربّك، لا من حتميّة طبيعة الإنسان كمخلوق!. لو كان من الحتميّة لزال!. وهذه حكمة العليّ!. قصْد ربّك الإتيان بالإنسان إلى ما هو أفضل!. والتّدبير هو إلقاء الإنسان في وجود يذوق فيه، بمعنًى، طعم العدم حتّى لا ينسى أصله وأنّه كائن في إلهه وحده!. إلى هذا النّوع من الوجود التّناقضيّ الانتفائيّ     – الوجود واللاّوجود معًا – ينتمي الألم والموت المتأتّيان من خطيئة الإنسان!. وطالما في الأمر تدبير إلهيّ؛ فنعمة الله تعمل على نحو ما!. وحيث تعمل نعمة ربّك تتحقّق مقاصده، لا محالة، لأنّ كلمته لا تعود إليه فارغة!. لذا، الألم والموت كانا أجرة الخطيئة، ولكن، من اختراع النّعمة، في آن معًا!. من محبّة الله بمعنى!. فلأنّ الإنسان لم يشأ أن يبقى عشير الله، بالطّاعة، استحسن الله أن يأتي بالإنسان إلى الطّاعة، ومن ثمّ إلى المحبّة، بالإيمان، أي بالثّقة والتّسليم، المتأتِّيَين، من شعوره العميق بالحاجة إلى سند لأنّه مسمَّر على الألم والموت، ومن رحمة الله، في آن معًا!. شعور الإنسان بالضّعف والعجز، في الحال الّتي آلَ إليها، بعد السّقوط، بات ضرورة، لا بل حاجة روحيّة أحشائيّة، وإلاّ لا يرجع ولا يخلص!. ليس في الأمر اقتصاص بل علاج!. ضعف الإنسان بالألم والموت، وعجزُه بإزائهما، خبرهما الرّبّ يسوع، في هذا السّياق، دون الخطيئة، وكرّسهما للبَرَكة والتّنقية والتّقديس بجسده!. لذا مَن تألّم للبرّ أو مَن اتّخذ الألم مجالاً للبرّ، أي، عمليًّا، مَن ارتضى الموت، طوعًا من أجل الملكوت، قَبْل موت الجسد، فإنّه في الغبطة يقيم!. بكلام سِفر الرّؤيا: طوبى للأموات الّذين يموتون في الرّبّ منذ الآن… لكي يستريحوا من أتعابهم!.

   كلّ الحكاية تحكيها صليبًا وقيامة!. لا عقل يدرك ما بينهما!. كيف تجمع الضّدّ إلى ضدِّه؟ أنّى لك أن تموت لتُحيا؟!. إفراغ الذّات كيف يصير شرطًا لامتلائها؟!. أن تفتقر لتصير غنيًّا، أن تتخلّى عن “أناك” لتقتنيها، أن تضع ذاتك لترتفع!. ليست هذه لغة المنطق، ولا هذا نسق التّحليل والتّركيب، ولا هكذا يتكلّم مَن يحصرون أنفسهم في هذا الدّهر!. الذّئب هنا يفترس الخروف، فكيف للخروف أن تكون له الغلبة؟!. ولكن الجالس على العرش حَمَلٌ ذبيح!. “الشّداي”، أي القويّ، ارتضى أن يتجلّى لا صورة له ولا جمال!. لا بدّ، والحال هذه، من أن تجدك على صعيدين في آن معًا، متى نقصتَ في الواحد منظورًا زدتَ في الآخر غير منظور؛ تهان في الأوّل وتُكرم في الثّاني؛ تنشدّ، هنا، إلى تحت فتأتيك المحصَّلةُ انشدادًا إلى فوق!. ما تلتقيه العين جرحًا يلقاه القلب برءًا!. ما يقع عليك ظلمًا يبرِّرك، وما يلقيك في الشّقاء تلقاه سؤددًا!. أنت، يا صاح، في غمرة العشق!. هذه لغة المحبوبيّة!. صليب المحبّة هنا بديهة وإلاّ لا تُحِب!. فإن اقتبلتَ الصّليب، تعبًا وبذلاً وتضحية ودمًا من أجل الحبيب، لم تمت، محبّتك إيّاه تقيمك إليه، تتحدك به، تجعلك منه، تُدخلك أبديّته، تشركك في حياته!. أما علمت أنّ المسيح قام في اللّحم والدّم ليكون لك، إذا ما اغترفتَه عشقًا، قيامةً في لحمك ودمك؟!.

   منذ أن سقط آدم وحوّاء، قال ربّك لحوّاء: بالوجع تلدين أولادًا؛ ولآدم: بالتّعب تأكل من الأرض كلّ أيّام حياتك!. لا باليسر ولا بالرّاحة!. أتظنّ قولة ربّك لعنة؟ بلى ولكن، لأجل المفارقة، للبَرَكة!. ما لُعنت الأرض إلاّ لتكون لك فرصةٌ أن تحيا!. اللّعنة، أنت أدخلتَها إلى حياتك بالخطيئة، فحتّى لا تفنى، لعن العليّ الأرض، أي جعلها على شاكلتك، تعاني وتنحلّ نظيرك ليكون لك مكان تقيم فيه!. بسببك ملعونة الأرض، حتّى كلّما خلدت إليها، كعشيرة ومشيرة، وطالعتَ أوجاعها، فطنتَ، كما في مرآة، إلى ما اقترفته يداك، فنهدتَ إلى توبة نصوح، تستعيدك والأرضَ إلى حضن ربّك!. فإن مججت التّعب وطلبت الرّاحة في الأرض رسختِ اللّعنةُ، بالأكثر، في روحك، وألقتك في أتعاب لا قرار لها!. لا تطلب اليسر لأنّ الحياة على الأرض، انتظمت، عند ربّك، عُسرًا!. اليُسرُ، هنا، إن سعيت في إثره، حتّم عليك مسير النّفاق!. كلّ سعي إلى الغنى والامتلاء والرّاحة والرّغد، ملطّخ بالمآثم؛ لا يعطيك سلامًا بل قلق، ولا يشبعك بل يجيعك، ولا يخفّف عنك بل يضنيك؛ يزيدك همًّا، يفرغك، يُشْقيك!.

   لذا تاريخ البشريّة، في تدبير ربّك، محكوم، بالأكثر، بالإحباط والفشل والشّقاء ولكنْ لخير الإنسان(!.) ولو لم يدرِ، مهما سعى القوم إلى إيهام أنفسهم بأنّه تاريخ بطولات وإنجازات وجمالات!. هذا إنْ هو سوى غرور الخطيئة!. تاريخ شعب الله أكثرُه شقاء وقهر وظلم!. تعزياته قلّة!. وكذا تاريخ كلّ نفس!. لا يناسبه غير التّعب!. ما يُتعب الجسد يريح النّفس، وما يريح الجسد يُتعب النّفس!. القصد، أوّلاً وأخيرًا، أن يكون القلب إلى القلب، أنا إليك وأنت إليّ وكِلانا، في ربّك، إليه!. هذا معيار النّجاح ولو افتقرتَ واحتُقرت وشُرِّدت في الأرض وظُلمت وعُرِّيت وأُلقيتَ في جبّ النّسيان، في ذاكرة العالمين!. ربّك يُحدِّث عنك في أوان موافق!. وإذ تكون العينُ على تاريخ الخلاص، نجدنا في الرّضاء، ونَقبل كلّ ما يأتي علينا!. ضَعفنا في قوّة الله يُكمل، وفقرنا في غناه!. المهمّ أن ينجح هو فينا من أجلنا!. إذ ذاك نلقانا، إذ ذاك يكون لنا خلاص، إذ ذاك نحكي الأبديّة!.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ، دوما – لبنان

 

عن “نقاط على الحروف”، 10 أيار 2015

 

أنت والله حكاية صراع!.