...

افرحي يا مريم المنعم عليها!

 


الرَّبُّ معك
(لوقا1: 28)
بارك يا أب!

أيُّها المسيحيون الصالحون! إنَّ عيدنا اليوم الفائق ضياؤه هو بداية جميع الأعياد السيدية كما أنَّه بداية خلاصنا. اليوم تفرح جميع المسكونة وتحتفل روحيَّاً من أجل محبَّة الله ورحمته تجاهنا التي يستحيل وصفهما اليوم يحصل ابن مريم على جسد بشري منها لأنه حينما أخطأ آدم طرده الله من الفردوس الرائع وحكم عليه بالموت فحُكم بالموت معه على كلِّ الجنس البشري. ولذلك نزل الله من السماء على الأرض وصار إنساناً لكي يُخلِّص الناس من قضاء الموت. اليوم نزل جبرائيل رئيس الملائكة وبشَّر العذراء القدِّيسة مريم بالفرح الغامض وصفه حول تجسُّد المسيح، الّذي لم يكن معلوماً حتى لدى الملائكة وحده رئيس الملائكة جبرائيل هو من تمَّ إعلامه من قبل الإله الرحيم الّذي يعتني بالجنس البشري باستمرار.

وكون أنَّ الله لم يقدر بسبب رحمته على تحمل رؤيتنا نحن جبلته مستعبدين من قبل الشيطان فلذلك شاء الله أن يرسل ابنه (كلمته) الوحيد المساوي للآب في الجوهر حتى يُخلِّصنا من عبودية الشيطان ويسمو بنا نحو الحياة الأبدية. وقد كان ذلك مخفياً عن كلِّ الخلائق وأعلم به رئيس الملائكة جبرائيل فقط الّذي أرسله الله بالسر عن المعالي السماوية إلى العذراء القدِّيسة مريم حتى يبشِّرها بأنها ستحبل وستلد الكلمة الإلهي المساوي للآب في الجوهر بحالٍ لا تفسَّر ولا يُدنى منها وحينما نزل إليها قال لها:” افرحي يا مريم المنعم عليها مباركةٌ أنتِ بين النساء.” أما هي عند رؤيتها الملاك فاضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن يكون هذا؟ فقال الملاك:” لا تخافي يا مريم فإنك قد وجدت نعمةً عند الله وإنَّك الآن ستحبلين وستلدين ابناً وستسمينه يسوع. وإنه سيكون عظيماً وسيدعى ابن العلي وسيعطيه الرب الإله كرسي أبيه داود وسيملك على بني إسرائيل إلى الأبد ولن يكون لملكه نهاية.” أمَّا مريم فقالت للملاك:” كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟” فقال الملاك:” الروح القدس سيحلُّ عليك وقوة العلي ستظللك ولذلك فالقدُّوس الّذي سيولد منك سيدعى ابن الله.” حينئذ قالت مريم:” ها آنذا أمة الرَّبِّ ليكن لي حسب قولك.” فرحل الملاك عنها من فوره. وأما هي فبالكلمات الملائكية حبلت في حشاها العذرية بابن وكلمة الله بمشيئة الآب وبفعل الروح القدس.(أنظرلوقا1: 28-36). وهكذا اليوم وُسع الابن والكلمة الإلهي ربُّنا بحالٍ لا تُفسَّر في حشا مريم حتى يؤله جبلته ويعيده إلى كرامته الأولى. إنَّ ذاك الّذي لم تسعه السماوات قد وسعته جبلته فأصبح ابن الله ابن العذراء. ذاك الّذي وُلِد من الله الآب بدون أمٍ قبل الخلق بحال لا تُفسَّر نوراً من نورٍ قد وُلِدَ الآن من أم من دون أبٍ بطريقة عجائبية وبطبيعتين: إلهية وبشرية أي وُلد إلهاً وإنساناً. وبالرغم من أنه قد نزل على الأرض من أجل خلاصنا وبالرغم من كلِّ ذلك فإنه بقي إلهاً كاملاً في السماوات ممجداً مع الآب والروح القدس وإلهاً كاملاً على الأرض مسجودٌ له ومالكٌ معهما. إنه قد وُلد بطريقة عجيبة في العالم لأنه ما حُبِلَ بآخر بل به نفسه الّذي هو مولودٌ قبل العالم كلِّه وقبل كلِّ الدهور بدون أمٍّ من الآب وكونه غير مخلوق أيضاً هو خالق آدم نفسه قد حُبل به اليوم في حشا مريم وظهر على الأرض باحثاً عن البشرية الهالكة بحثه عن خروفٍ ضالٍ.

إنَّ الإله الرحيم إذ أنَّه كان يشاهدنا كيف كنا ساقطين في عبادة الأصنام وكثرة الآلهة لم يتحمَّل أن ينظر كيف أنَّ الشيطان ينهب ويهلك رعيته أرسل قبل كلَّ قبل شيءٍ أنبياءً الّذين تنبأوا بمولده. وأما عندما حانت الساعة التي فيها ستتمُّ النبوءات أرسل الله رئيس الملائكة جبرائيل ليذهب إلى مريم العذراء التي نُبِّئ عنها رمزياً على صورة مدينة حيَّة ولأنَّ ابن الله كان سيسكن فيها بحالٍ لا تُفسَّر أرسل الله جبرائيل إليها ليقول لها:” افرحي يا مريم المنعم عليها! لأنَّ الرَّبَّ معكِ. فإنَّك ستكونين تجديد العالم بأثره فإنَّه منك سيزهر فرحٌ لجميع العالم وستكونين مباركة من بين جميع النساء والثمر الّذي سيقضي على لعنة حواء سيكون مباركاً.” إنك ستحبلين الآن في حشاك وستلدين ابناً الّذي ستسمينه يسوع (المخلِّص)( لوقا1: 28، 31 ) لأنه سوف يُخلِّص شعبه من خطاياهم .” (متَّى1: 25) كما سمعتم اليوم من الإنجيل.

أيُّها الإخوة المسيحيون! اليوم قد حصلنا من الله على عطية عظيمة، إذ أنه اليوم عدوُّنا الشيطان قد تمَّ ربطه وأما خدمته وذبائحه الوثنية فقد ديست. اليوم قد رحل من أبواب الجنَّة الشيروبيم الّذي كان يحرسها بسيفٍ ناري طارداً البشريةَ منها. اليوم كلُّ مسيحيٍّ يؤمن بالمسيح ويقوم بالأعمال الصالحة يدخل بيسرٍ وبفرحٍ عظيمٍ إلى الفردوس. اليوم آدم يبتهج حينما يرى خالقه مرتدياً حلَّته البشرية، اليوم تفرح حواء إزاء مشاهدتها رأس الحية الّذي تمَّ سحقه ويفرح العالم بأجمعه من أجل تحرُّره وفدائه.

ولكنَّنا نحن أيُّها الإخوة المثقَّلون بخطايا ثقيلة وأعمالٍ شرِّيرة لا نستطيع أن نمتلك فرحاً عظيماً. ولهذا يجب أن نلتجئ إلى التوبة معترفين بخطايانا الّتي تعدُّ موتاً للنفس. لأنَّ الخطايا تطرد الله الساكن في نفسنا. فإنه كما أنَّ النفس هي حياة الجسد كذلك الله هو حياة النفس. وكما أنَّ الجسد من دون نفسٍ ميِّت كذلك النفس من دون الله ميِّتة تبقى في الجسد كما في قبرٍ. فالقبر يتحرَّك وأما النفس فتبقى فيها لا نسمة لها أي لا إله لها. الجسد الحيُّ يحمل في داخله نفساً ميِّتة. هكذا هو كلُّ خاطئٍ من دون التوبة، جسده حيٌّ وأمَّا نفسه فميِّتة من جرَّاء خطاياه الدنسة. لكنَّه ما أن يتوب حتى تعود نفسه حيَّةً من جديد. أنتم تعرفون عن مثل الابن الضال: فإنه ريثما كان في بيته كان ابن أبيه ووارثاً له وحينما ابتعد عن أبيه صار ابناً ضالاً وميِّتاً وعندما رجع إلى التوبة عاش من جديد محيِّياًنفسه.

ولهذا علينا نحن الخطأة أن نتوب وعسى أن تصادفنا ساعة الموت في أعمالٍ صالحة وليس في أعمالٍ شرِّيرة. ها أنَّ القيامة المقدَّسة قد اقتربت حينما سيحصلون الصائمون الشاطرون مكافأتهم من لدن الله، الفرح والابتهاج. ها أنَّ كنيسة الله أيضاً تبتهج عند رؤيتها إيانا آتين إليها يوميَّاً. لأنه فيه يتواجد الجرن العمومي الّذي يغسل خطايانا والمائدة التي يوجد مستلقياً عليها الحمل يسوع المسيح المذبوح، والّذي صار ذبيحةً للعالم أجمع وهو يدعو خدَّامه الأوفياء إلى الابتهاج والوليمة المحية. والّذي يقبل بإيمانٍ هذه الوليمة سيكون حيَّاً إلى الأبد كما يقول المخلِّص نفسهُ:” الّذي يأكل جسدي ويشرب دمي سيكون حيَّاً إلى الأبد (تكون له الحياة الأبديَّة). (أنظريوحنَّا6: 54، 56)، وأمَّا الّذي يقبله بغير استحقاقٍ يقبل الخطيئة والدينونة لأنَّه لم يميِّز جسد الرَّبِّ.” ( 1كورنثوس11: 29 ) ، الّذي يعدُّ ذبيحةً ناطقةً يقف أمامها الشيروبيموالسيرافيم وجميع القوات السماوية الّذين لا يتجرَّأون على النظر إلى هذه الذبيحة .

ولهذا علينا نحن أيضاً أن نتقدَّم بخوفٍ ونتقبَّل القربان المقدَّس باستحقاقٍ وبأعمالٍ صالحة ونقول لمريم العذراء الفائقة القداسة:” أيتها العذراء يا والدة الإله! إنَّك تقفين أكثر علواً من جميع المدائح على الأرض! وكلُّ ذي نسمةٍ يُقدِّم لك المديح. لأنَّ الله قد قبل منك جسداً. ولكنَّنا نبتهل إليك يا والدة الإله أرحمينا نحن الخطأة وخلِّصينا من جميع الشدائد واجعلينا مستحقِّين لكي ندخل إلى ملكوت الرَّبِّ إلهِنا الّذي به يليق المجد إلى مدى الدهور.آمين.”

من كتاب”الآحاد” للقدِّيس صفرونيوس البلغاري
victordotcom1.wordpress.com

 

 

 

 

 

افرحي يا مريم المنعم عليها!