...

في الرجاء والتواضع للقديس إسحق السرياني

 

 

س- لماذا يكون الرجاء هكذا عذباً ومسلكه وعمله حقيقيين؟ لماذا تصبح أعماله سريعة في النفس؟
– بسبب الشوق المستيقظ في النفس، إنه يملأ الكأس فيسكر الإنسان فوراً فلا يشعر بالآلام، وهو يسير ويخال أنه إنما يحلق ويمشي فوق الريح، هذا لا يعني أن الطريق خالية من المصاعب والحفر والحواجز، الطريق كما يقول أشعيا (4:4) قاسية وعرة إلا أن الرجاء يجعلها مستقيمة ويقوده إلى أحضان الآب.
– الرجاء إصبع يرشده إلى الكائنات البعيدة الغير المنظورة، فيراها بعين إيمانه الخفية وتصير الأمور البعيدة في نظره كأنها حقيقة قريبة منه بسبب الشوق، الذي يشعل النفس كأنه نار، للأمور القصية.
هؤلاء البشر لا يحبون تعرجات الطريق ولا طولها بل يقفزونها فوراً لأنهم يحققون الفضائل لا تدريجياً بل فوراً، إنهم لا يسلكون الطريق الرئيس بل سبلاً يختارها هؤلاء العمالقة يختارها الرجاء الذي يحرق كالنار فإذا هم في قلب الفضائل المكملة للوحدة الحقيقية بالله، ويصبحون كما يقول أرميا النبي ” فقلت لا أذكره ولا أتكلم باسمه من بعد لكنه كان قلبي كنــار محـــــرقـــة قد هبت في عظـــــامي فجهدني إمــســـاكــه ولم أقوَ على ذلك” أرميـــــــا 20: 9) .
ما معنى عدم الآلام البشرية؟
عدم الآلام لا يعني عدم الشعور بها، بل عدم إفساح المجال لها بسبب الفضائل الكثيرة المختلفة الظاهرة والخفية التي ملكوها، فأخضعتها حتى أصبحت غير قادرة على الثورة ضد النفس، وصارت لا تشكل أي اهتمام للذهن، بعد أن امتلأ بالمعاني ، من الدرس الدائم، والهذيذ الروحي يتحرك إدراكاً ووعياً في العقل، وإذا ما تمكنت الآلام أن تجد منفذاً إلى الذهن وتسيطر على عضو من أعضائه، فإنها تصبح رويداً رويداً شاغلاً للعقل يتسع حتى يصبح محركاً للشعور بالألم والعذاب.
العقل المليء بالنعمة الإلهية، والمتمم لأعمال الفضائل، والقريب منها بالمعرفة، يكون قليل التأثر بالشر الذي يحاول دائماً مداهمة النفس، لأن معرفته تكون فوق الأمور البشرية ومؤثراتها، وفي حالة من الارتفاع المحرّر والمُعتق.
هؤلاء المؤهبون يصبحون أنقياء في قلوبهم شفافين في أجسادهم بسبب مرانهم الدائم المتوقد في عقلهم رقة وخفة وجهلاً فوق كل حكمة بشرية.
هؤلاء المؤهبون يصبحون يابسي الأجساد بسبب حياتهم الطويلة في الهدوء، مستنيري العقل بسبب هذيذهم الدائم في الله. منهم تمحي ذكريات الأرض التي تحرك الأهواء في النفس وتموت قدرة الشيطان.
النفس البعيدة عن الأهواء، النفس البعيدة عن الاهتمامات العالمية، النفس الغائصة في ذاتها تشل حركة الأهواء وتكسر مخالبها وتبعدها عن اندفاعها الروحي وتلجم كل حركة من حركاتها وتميتها.
ما هي ميزات التواضع؟
– إذا كان الغرور يشتت النفس ويبددها ويدفعها إلى تحليقات هوائية فالتواضع يجمعها بهدوء ويضرم فيها النار ويجنحها بالغمام، إذا كانت النفس غير منظورة بالعيون الجسدية كذلك المتواضع لا يعرف بين البشر، وكما النفس تختبئ وسط الجسد كذلك المتواضع لا يتحاشى أن يظهر بين الناس وفي اجتماعاتهم فحسب بل يسجن نفسه في ذاته بإرادته صامتاً قانعاً بعالم أعماقه يعيش فيه كأنه يعيش في عالم مستقل لا يقيده زمان ولا مكان، سماره المعاني التي يغرفها من عالم صمته ونقاوته، معاني تنسيه حتى ذاته، فيرتفع إلى درجة من عدم المعرفة مضاعفاً فيه الكنوز التي يزيدها التواضع الصامت إشراقاً وإشعاعاً.
المتواضع لا يطرب لأناشيد البشر ولا تستهويه الحياة العامة، بمجتمعاتها وترفها واهتماماتها المظلمة، المتواضع يفرح بالوحدة ويسر بالصمت ويعيش على الحقيقة، الوحدة والانفراد هما الدافع إلى الارتفاع وهذا يرتفع بتواضعه إلى عالم السلام الفكري والهدوء الذهني، ويبتعد عن الاهتمامات التي تقفل باب السلام لتفتح باب الجحيم المعذب المضني.
لا مجال في التواضع للأفكار المحمومة والكلام الفارغ، المجال فقط لعالم الهدوء والاطمئنان، لا يعرف المتواضع الخوف حتى لو طبقت السماء على الأرض، ليس كل محب للهدوء بمتواضع والعكس بالعكس، وليس كل منطو على ذاته بمتواضع ” تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب تجدوا راحة لنفوسكم” ( متى11: 29) المتواضع يعيش في هدوء دائم، لأنه ليس من هذا العالم، إنه لا يخاف الأحزان ولا ترعبه ولا تغيره، لا يباهي ولا يفتخر، لا تبطره المسرات لأن أفراحه في سيده.
ثمرة التواضع الحشمة والرقة والإحسان والدموع والقلب المنسحق وشل حركة الغضب والصبر وطول الأناة وإطفاء نيران الشرير، المتواضع يقف أمام الله كإنسان مفقود الجرأة لا يعرف ماذا يقول وماذا يصلي وماذا يطلب، جل ما يطلبه رحمة الله وإرادته ومشيئته، جل ما ينشده صمت فيه كل معاني الكمال، كل التعبير عن غزارة عالمه الروحي، يحني رأسه أمام الله في خشية وخجل في حين تكون نفسه شعلة محترقة فوق درج باب القدسات يلفه الغمام الذي يبهر أعين الملائكة يحني رأسه صامتاً ساكباً فوق مصف الملائكة صمته، بالرغم من كل هذا لا يجسر أن يقول إلا صلاة المتواضع: فلتكن إرادتك يا رب. هذا ما يجب أن نفعله نحن.
تعريب المطران الياس (معوّض)
عن “مجلة النور”، العدد 8 ، السنة 21، تشرين الأول1965، صفحة227

 

 

في الرجاء والتواضع للقديس إسحق السرياني