...

القلب الخاشع المتواضع

بعد أن زرعت الكنيسة السجود للصليب الكريم في وسط الصوم الكبير، نراها تشدّد، في المقلب الثاني من الصوم، على مواضيع أكثر التصاقًا بحياة المؤمنين عبر تذكار القدّيس يوحنّا السينائيّ «السلّميّ»، كاتب السلّم إلى الله في الأحد الرابع، والقدّيسة مريم المصريّة في الأحد الخامس. أعطى يوحنّا مبادئ الجهاد والنسك في كتاباته وأعطتها مريم في حياتها. وبما أنّ النسك ليس للذكرى فقط بل للممارسة، لذلك خصّصت الكنيسة الفصل الأخير من صيامنا لاكتساب خبرات هذين القدّيسين.

يتضمّن كتاب السلّم إلى الله مجموعة مقالات وتعاليم منسّقة وموزّعة على ثلاثين «درجة»، تحوي خبرات روحيّة كتابيّة ونصائح وإرشادات للمؤمنين المجاهدين للارتقاء في سلّم الفضائل المسيحيّة، عبر رذل الشهوات الجسديّة والروحيّة ومحاربتها.

ففي المقالة الرابعة «في الطاعة المغبوطة الدائمة الذكر»، على سبيل المثال، يورد يوحنّا على لسان أحد الرهبان: «عندما كنت شابًّا ومُكلّفًا الاعتناء بدوابّ الدير، حدث أن سقطتُ مرّة سقطة روحيّة كبيرة. ولكن، لأنّه لم يكن من عادتي البتّة إخفاء حيّة ما في وكر قلبي، فقد أمسكتها من ذيلها وأشهرتها فوجدتها صارت طبيبًا» (الدرجة ٤: ٣٢). نرى كيف أنّ فضيلة الطاعة، التي فشل آدم الالتزام بها، فصار عرضة للدغة الحيّة أي الموت (تكوين ٣)، نرى كيف أنّ اكتساب الطاعة يحوّل هذه الحيّة إلى دواء «طبيب»، على غرار الحيّة النحاسيّة التي رفعها موسى في البرّيّة، فكان متى لدغت حيّة إنسانًا ونظر إلى حيّة النحاس يحيا (عدد ٢١: ٨-٩). لذلك، يصير هذا الراهب بعد مدّ يده وانتشال «ذنب» الحيّة من وكر قلبه صورة عن موسى عند استلامه عصا السلطة (خروج ٤: ١-٣) التي تتحوّل إلى حيّة. هذه هي الصورة المزدوجة للحيّة، هي من جهة تمثّل الداء «موت المعصية وشجرة معرفة الخير والشرّ» – ومن جهة أخرى الدواء «طاعة ابن البشر المعلّق على العود» – «كما رفع موسى الحيّة في البرّيّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان» (يوحنّا ٣: ١٤). تجد هذه الصورة رمزها في عصا الأسقف حيث تتوسّط الصليب حيّتان من كلّ جهّة، علامة على غلبة المسيح على الموت ومنحه شجرة الحياة.

في مثال آخر عن التوبة من كتاب السلّميّ، يحذّر يوحنّا المتوانين في التوبة الصادقة: «لننتبه جميعنا ولا سيّما الذين سقطوا بيننا، كيلا يعتري قلبنا داء أوريجنّس. لأنَّ هذا الداء الذي هو التذرّع بمحبّة الله للبشر، يُصاب به سريعًا مُحبّو اللذّات» (مقالة ٥: ٤١). في هذا السياق، لعلّه من بين الأوصاف الأقلّ رواجًا التي أُطلقت على الربّ يسوع، هو وصفٌ معيّن أطلقه عليه يوحنّا المعمدان: «فهو الذي يحمل الِمذرى بيده، وسيُنقّي بيدره تمامًا، فيجمع قمحه إلى المخزن، وأمَّا التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ» (متّى ٣: ١٢).

دراسة البَيْدر، نشاطٌ عنيف. هي عمليّة تُتَمّم عبر ضرب السنابل، مرارًا وتكرارًا، على أرض البيدر الصلبة بواسطة رفش أو بتمرير الِمدْرَس (أو «المورش»، وهو لوح يحمل حجارة صوّان لسحق السنابل) فوقها، لفصل الحبوب عن قشور القشّ التي تغلّفها. القشور المستبعدة تُدعى تِبنًا. عند انتهاء دراسة (ضرب) الحبوب، يبادر الدارس إلى تذريتها (بواسطة المِذرى) في الهواء (عبر نثرها إلى الأعلى) حتّى تحمل الريح القشّ الخفيف وعديم الفائدة بعيدًا، فيسقط الحبّ الثقيل من جديد على أرض البيدر. هذا النشاط الأخير يدعى التذرية (غربلة).

الدرس والتذرية عمليّتان عنيفتان بالتأكيد، من الأنشطة المختصّة بالدينونة، والطرائق الشرسة لفصل الجيّد عن العاطل. عمليّة الفصل هذه نهائيّة بحقّ. طوال مدّة نموّها، لقد نمت حبوب الحنطة والقشور معًا، ولكنّها بعد الآن لن تجتمع أبدًا من جديد.

هذا الفصل النهائيّ بين القمح والقشور، هذا المبدأ للقَبول والرفض النهائيّين للقرارات الإنسانيّة، هو أمر ضروريّ للإنجيل ذاته، لأنّه يؤكّد على الأهمّيّة الأبديّة لتلك القرارات. ونتيجة لذلك، فعمليّة التذرية «البيبليّة» هذه، تتعارض بشكل مباشر مع تلك الفلسفات الدينيّة التي شُيّدت حول «أسطورة العودة الأبديّة» (أي أنّ كلّ الأفعال البشريّة عبر التاريخ- خاضعة لمراجعة إضافيّة، على حدّ زعم هؤلاء الفلاسفة، واحتمال تصحيحها في فترة ما بعد الحياة – من أجل تحقيق «مصالحة كونيّة»). بدعة «خلاص كلّ البشر» هذه، أُدينت بحقّ في المجمع المسكونيّ الخامس.

التعليم الكتابيّ حول دينونة الله وفصله الجيّد عن الرديء، يأتي في سياق وكأنّه موجّه إلى الردّ على السؤال الاستفزازيّ المعاصر: «هل يخلص كلّ البشر في النهاية؟».

لا، نحن لا نجرؤ على أن نترجّى شيئًا من هذا القبيل. هذا وهم هذيانيّ، ولا يعبّر عن موضوع الإيمان المسيحيّ. بالحقيقة، يحذّرنا يوحنّا السينائيّ ممّا تحمله من مخاطر روحيّة، حتّى من مجرّد تداول أفكار من هذا القبيل (مقالة ٥: ٤١).

إذا اعتبرنا القمح والقشر في نهاية المطاف الشيء ذاته، يصير عندها خيار الإنسان سرابًا، والتاريخ البشريّ مجرّد إنتاج مسرحيّ، وموت المسيح وقيامته في نهاية المطاف لا معنى لهما. يسوع كمخلّص يجب عدم فصله عن يسوع كدارس.

يوحنّا السينائيّ مع «سحابة» من المجاهدين التائبين إلى الطاعة الإلهيّة، يرشدون صيامنا إلى العبادة الأصيلة لله في هيكل الروح، صلاة الخطأة التائبين الذي لا يفترون عن قرع صدورهم مطالبين برجاء الرحمة الإلهيّة (لوقا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القلب الخاشع المتواضع