...

من سيرة الأرشمندريت إسحق عطاالله

 

 

طفولته وصباه:
هو فارس نمر عطاالله. ولد في نابيه (المتن الشماليّ) في 12 نيسان 1937. نشأ في عائلة مسيحية مؤمنة. حصّل دروسه الابتدائية في قريته. أحبّ الكنيسة والخلوة منذ طفولته، فكان يذهب إلى البريّة ليصلّي. تعلّم حب المسيح والكنيسة من والده الذي كان مرتّلا ذا صوت جميل لا يبارح كنيسة بلدته. كان يكنّ لأبيه كل الوقار، ولازمه مداومًا على مساعدته، ولم يرفض له طلبًا. فقد قصد في صباه دير مار الياس شويا ذات يومٍ، فلحق به والده، وأعاده إلى المنزل، وقد قيل يومها أنه أُعيد لأن الشائع ألاّ يقبل الرهبان في عدادهم شابًا بكرًا لعائلته. رضخ فارس وقتئذٍ، وعاد إلى البيت.
بعد وفاة والدته مرتا، عاد والده فتزوّج. فقدِم الكاهن مساءً إلى المنزل ليُجري إكليل نمر و فريدة، فخدم فارس الإكليل كمرتّلٍ، وهو ابن اثنتي عشرة سنة.
مهنتاه:
تعلّم فارس مهنة النجارة لدى حبيب لبّس في أنطلياس، وانطلق للعمل في سوق النجّارين في بيروت. وكان كل ليلة لا يعود قبل الساعة الثامنة ليلاً، فيجزره والده على تأخّره ليليًا. تبيّن من ثمّ أن تأخُّره في معظم تلك الليالي ناتج من أنه كان يقصد الأشرفية بعد العمل ليتعلّم الموسيقى البيزنطية على متري المرّ، بروتوبسالتي (أي المرتّل الأوّل) الكرسيّ الأنطاكيّ.
انتقل من سوق النجّارين إلى حقل الفندقية التي برع فيها، فعمل “عشّيًّا” في فندق فينيسيا، وكان هذا الفندق في عزّ بداياته. استمرّ في عمله هناك سنتين.
قرار العمر:
في أحد أيام صيف 1962، وضّب ثيابه في حقيبته، وترك عمله في الفندق المشهور، وقفل راجعًا إلى البيت. وما أن بلغ البيت حتى سلّم والده دفتر توفير في “البنك الأهليّ”، وقال له: هذا الحساب المجمّد في المصرف هو باسمكَ أنتَ، وتاريخ استحقاقه هو كذا. أرجو منك، حين بلوغ تاريخ الاستحقاق، أن تسحب المال لتوزّعه على أفراد العائلة بالتساوي. وأنا لا أريد شيئًا لأني مغادر إلى الدير. سأله والده: إلامَ تحتاج في هذه الحياة لأقدّمه إليك على ألاّ تذهب لتصير كاهنًا؟ أجاب فارس: لو ملّكتني هذه الدنيا، لن تشتهيها عيني. فدعوتي ليست هنا، بل في الدير.
حالاً، إستدعى نمر أبناءه وهو حزين، وعرض المسألة عليهم لعلّ أحدًا يقدر أن يُثني ابنه البكر عن عزمه على الترهّب، ولكن عبثًا.
إلى الدير:
في اليوم ذاته، حمل فارس حقيبته، وتوجّه برفقة أخيه أنطون ليستقرّ في مكانٍ لم يرَه قط، ولم يكن يعرف عنه إلا العنوان “دير السيدة في بكِفتين (الكورة)”؛ حسبُه أنه يعرف رئيس الدير، الأرشمندريت يوحنا منصور (مطران اللاذقية الحاليّ)، ابن “حركة الشبيبة الأرثوذكسية” القادم من اللاذقية، والمعروف بتقواه وورعه.
نزل الشقيقان إلى بيروت، إلى “موقف طرابلس”. استقلاّ “بوسطة الأحدب” التي أوصلهم إلى طرابلس. هناك، انتقلا إلى “ساحة النجمة” حيث “موقف بكفتين”. صعدا سيارة أجرةٍ لصاحبها محمد الذي طلب منه فارس أن يتوجّه بهما إلى دير بكفتين. لما بلغوا المكان، أوقف السائق السيارة أمام درج الدير، وترجّل الجميع. حين وطئت قدما فارسٍ أرض بكفتين، جثا على ركبتيه متّجهًا نحو الدير، ورفع يديه إلى العلاء، وتلا صلاةً، ورسم إشارة الصليب على وجهه. ثم نهض، وقال بصوتٍ مسموع: “أشكرك يا رب لأني نلتُ أُمنيتي الآن”.
عند دخول الأخَوين إلى الدير، استقبلهما الأرشمندريت يوحنا. والدير آنذاك كان شبه خَرِبٍ، ومعظم غرفه كانت قديمة ومهدّمة، ولم يكن يقيم في الدير سوى الرئيس وأخ آخر.
حين شارفت الشمس على المغيب، ترك أنطون أخاه فارسًا في الدير، وقفل راجعًا إلى نابيه ليجد في المنزل الأهل والأقارب ينتظرونه. سأله والده: “إلى أين ذهب فارس؟”. أجاب: “إلى دير بكفتين في الكورة. ولكنني أُطمئنك بأنه، نظرًا إلى حالة الدير الخَرِبة، وبما أن أخي كان يعمل في فندق فينيسيا في بيروت، فسوف لن يمضي يوم أو اثنان إلاّ وتراه عائدًا إلى البيت”. فقال أبوه: “مهما سيواجه أخوك من صعوبات، فهو لن يعود قط”.
مكث فارس في دير بكفتين نحو شهرين أو ثلاثة. انتقل بعدها إلى دير البلمند ليتابع دروسه في مدرسة البلمند، فبذل كل جهده ليُنهي دروسه بتفوّق.
شموسيّته:
مكوثه في البلمند جعله تحت رعاية الأسقف إغناطيوس هزيم (البطريرك الحاليّ)، رئيس الدير آنذاك. رُسم شمّاسًا باسم “فيلبّس” في دير مار يعقوب في ددّه (الكورة) بوضع يد المطران الياس قربان سنة 1963. وخَدَمَ في البلمند مسؤولاً عن ماليّة الدير.
في بلاد اليونان:
سافر إلى جزيرة باتمُس (Patmos) في بلاد اليونان حيث أنهى دروسه الثانوية سنة 1968. ثم درس اللاهوت في جامعة تسالونيكي حيث خَدَمَ شمّاسًا في كاتدرائية القديس ديمتريوس الشهيرة. اشتُهر بصوته الشجيّ، فكان المؤمنون يرتادون تلك الكنيسة خصّيصًا لسماعه يتلو الطلبات باليونانية والعربية. خلال تلك الفترة، تعرّف على الجبل المقدّس (جبل آثوس Athos) القريب من تسالونيكي، وعلى الرهبانية فيه، وعلى أبيه الروحيّ الشيخ باييسيوس (Paissios) (+12 حزيران 1994).
عودته إلى لبنان وكهنوته:
عاد إلى لبنان، ورُسم كاهنًا في دير سيدة البلمند بوضع يد البطريرك الياس الرابع معوّض. اختار الاستقرار في دير مار جرجس في حماطورة (زغرتا) عام 1973 بعد أن كان خلا من الرهبان لفترة طويلة، فرمّم كنيسته وقلاّياته، وأعاد زرع أشجار الزيتون والكرمة في بساتينه القاحلة. شكّل الدير حينها مركز إشعاعٍ روحيّ جذبَ إلى نور الرب نفوسًا كثيرةً. خلال استقراره في الدير، خدم رعية مار مخايل في بلدة راس كيفا المجاورة للدير.
سفره إلى اليونان من جديد:
خلال حرب الكورة عام 1975، زُرعت المدافع في جوار الدير، وتحوّلت بساتينه إلى منطقة عسكريّة حتّمت على الأب فيلبّس الرحيل عن المكان، فسافر إلى تسالونيكي حيث أصبح أرشمندريتًا عام 1976، وخدم في كنيسة القديسة بربارة في المدينة، وكان مسؤولاً عن طلاب اللاهوت البلمنديين في تسالونيكي.
الصليب ليس للفرجة:
في النصف الثاني من السبعينات، قام بزيارة خاطفة إلى لبنان مرّ فيها بأديار الشمال، وعرّج على بلدته نابيه. صودف يومها إكليل ابنة خاله الشيخ عبّود عطاالله الذي اعتبر بدوره أن الله ساق الأب فيلبّس ليُبارك بيده إكليل ابنته.أثناء الإكليل، لاحظ الحضور أن الأرشمندريت فيلبس يضع صليبًا مذهّبًا على صدره. بعد الإكليل، بات الأرشمندريت فيلبس في منزل والده الذي طلب منه أن يريه الصليب الذي كان يضعه أثناء الخدمة الكنسيّة، فأجابه: هذا الصليب نضعه أثناء الخدمة في الكنيسة فقط، لأنه ليس للفرجة.
استقراره النهائيّ في الجبل المقدّس:
عام 1978، استحصل على كتاب تصريف من راعي أبرشية جبل لبنان، المطران جورج خضر، حتى تمكّن من الانضمام إلى رهبان الجبل المقدّس (آثوس)، وهناك ترهّب واتخذ اسم شفيعه القديس إسحق السريانيّ. كان استقراره في آثوس المرحلة الأخيرة من حياته. فمكث سنةً في دير ستافرونيكيتا (Stavronikita)، ثم انتقل إلى قلاّيته الخاصّة، “قلاّية القيامة”، التي أعاد بناءها بيده في منطقة كَبْسالا (Kapsala) قرب عاصمة الجبل، كارييس (Karyes).
في مرحلةٍ أولى، عاش في قلاّية القيامة وحده أربع سنوات في تقشُّف شديد، وتعرّض إلى تجارب كثيرة حاولت إخراجه من قلاّيته. مرّةً، اشتدّت عليه الأفكار إلى حدّ أنه احتار في أمره، فوجد قبرًا قديمًا في تجواله في الحرش، فتوقّف أمامه وصلّى، وذكَر موته، وقال في نفسه: “هنا أموت”، وللحال اختفت الأفكار.
بناءً على التقليد الرهبانيّ الآثوسيّ، القاضي بأن يحفر الراهب قبره بيده لكي لا يبارحه ذِكْرُ الموت ما دام حيًا، حفر الأب إسحق حفرةً بطول قامته في تراب الحديقة المجاورة لقلاّيته لتكون قبره. وكان كل يوم يبخّر القبر الذي ضمّ في النهاية رفاته بعد أن رقد بالرب مساء الخميس 16 تموز 1998.
قطعة صغيرة في السماء:
في أوائل الثمانينات، قرّر نمر عطاالله (أبو فارس) أن يوزّع أملاكه على أولاده. جمع أولاده الموجودين بقربه، وأعلمهم برغبته تلك، على أن يتولّى أخوهم الأكبر (أبونا إسحق) عملية التوزيع. حينها بعث الإخوة برسالةٍ إلى الأب إسحق الذي كان في جبل آثوس يعْلِمونه برغبة والدهم. بعد فترة، استلموا منه رسالة يسألهم فيها “إن كنتم تحضّرون لأنفسكم قطعة صغيرة في السماء بدل اهتمامكم بالأشياء المادية التي هي مُلْك هذا العالم؟”. وحيث إنه لم يأتِ، أخذ أبو فارس على عاتقه تقسيم الحصص بالتساوي على أولاده جميعًا، دون أن يستثني الأب إسحق.
بعد أشهر، قدِم أبونا إسحق إلى لبنان. وعند زيارته منزل والده، أخبره أبو فارس عن نتيجة قراره في موضوع توزيع الأملاك على أولاده، وعن الحصص التي جعلها من نصيبه. شكر أبونا إسحق والده على عاطفته ومحبته، وطلب منه أن يقسّم حصّته بالتساوي ويوزّعها على إخوته، مذكّرًا إياه بأنه وهب نفسه للرب واختار حياة زهد وصلاة وصوم، على رجاء أن يرث ولو قطعة صغيرة في السماء. وطلب من إخوته أن يبذلوا بدورهم قصارى جهدهم ليفعلوا مثله.
شهرته:
أقام في جبل آثوس من سنة 1978 حتى 1998، وعُرف بشدّة نسكه وجهاده الروحيّ، فاشتُهر أبًا روحيًا في كل بلاد اليونان، وداعيةً إلى ممارسة سرّ الاعتراف، وكان حازمًا إزاء نفسه وإزاء أبنائه الروحيين. وكوْنَه الراهب الأنطاكيّ الوحيد في تلك الديار جعل منه “باب أنطاكيا”، فكان اللبنانيون والعرب يحجّون إلى قلايته من بطريركيات أنطاكيا وأورشليم والإسكندرية، وحتى من القارّة الجديدة. إلا أن هذا لم يمنعه من القيام بزيارات قصيرة إلى الأردن ومصر، فضلاً عن لبنان وسوريا.
الاستعداد لتلك الساعة:
في أوائل صيف 1998، ألمّت بالأب إسحق وعكة صحيّة قوية ألزمته ترك قلايته في جبل آثوس (التي قلّما غادرها) والذهاب إلى تسالونيكي للمعالجة في المستشفى. عند بلوغ عائلته خبر مرضه، قرّر أخوه أنطون، وجورج (ابن أخيه يوسف)، والأب ملحم الحوراني (صهر أخيه أنطون) أن يسافروا إلى اليونان للاطمئنان عن صحته. وصل الثلاثة إلى تسالونيكي، وتوجّهوا إلى المستشفى المعيّن. كان الدخول إلى غرفة الأب إسحق ممنوعًا، ولكن إدارة المستشفى علمت بأمر الزائرين واستقبلتهم. أوّل مَن دخل غرفة الأب إسحق كان أخوه أنطون. استقبله الأب إسحق مبتسمًا وبادره بالقول: “ما الذي أتى بك إلى هنا يا أخي؟ هل قيل لك بأن أخاك مريض ومن المستحسن أن تزوره؟ آه يا أخي أنطون، أنا أفكّر بك. أنا جاهدت كثيرًا في الصلاة والصوم للقاء الرب، وأشعر بأني حاضر ومستعدّ لهذه الساعة المباركة. همّي يا أخي هو أنت الذي تقضي كل وقتك في العمل. هل تعمل لتُعِدّ نفسك لتلك الساعة؟ هل أنت حاضر لتقف أمام الرب؟”.
لا خوف من تلك الساعة:
من جملة الأمور التي تركت في داخلي أثرًا عميقًا حين كان ابنه الروحي، الأب إفثيميوس (Efthimios)، يتلو أحد الأفاشين فوق رأس الأب إسحق. فبينما كان يتلو الصلاة، وردت فيها كلمة “موت” مرّات عدّة، فتأثّر كثيرًا وتلعثم، ولم يعد يستطيع المتابعة. حينذاك انفعل أبونا إسحق، وطلب منه متابعة الصلاة بجرأة، وقال: “ممّ الخوف؟ إنني جاهدتُ كثيرًا من أجل تلك الساعة، وأنا جاهز ومستعدّ”.
شعبيّته:
من المشاهد المؤثّرة أن الأب إسحق الذي استقرّ في الغربة بعيدًا عن عائلته وأهله لم يكن غريبًا في بلاد الغربة تلك، بل كانت له هناك أيضًا عائلة أُخرى، عائلة روحيّة كبيرة تحبّه حبًا عظيمًا. يكفي مشاهدة الجموع التي كانت تتجمّع في صالة الانتظار في المستشفى، طالبةً من الممرّضين السماح لهم بالدخول لثوانٍ معدودات للتبرّك من الأب الشيخ (Yeronda) إسحق. فكان كل واحد ينتظر دوره ليدخل الغرفة بسرعة البرق، وبخشوع يأخذ البركة من الأب الشيخ (بتقبيل يده ورجله)، ثم يخرج بسرعة مفسحًا في المجال للزائر التالي الذي ينتظر.
كذلك، خلال الفترة التي قضاها زوّاره الثلاثة في تسالونيكي، كان الأب إسحق يكلّف كل يومٍ واحدًا من أبنائه الروحيين اصطحاب هؤلاء الزوار إلى أديارٍ وأماكن مقدّسة في طول البلاد وعرضها، ليطمئن هو إلى أنهم يقضون النهار كلّه في جولاتٍ مفيدةٍ بعيدًا عن تسالونيكي، وعن المستشفى. وكان هؤلاء الثلاثة يفاجأون في كل زياراتهم بأن يجدوا في أي دير أو منزلٍ يدخلونه صورةً أو أكثر للأب إسحق المعروف عند مسيحيي تلك البلاد باسم ” Yeronda “.
آثاره:
ترجم كتبًا روحية مهمّة، أشهرها:
-القديس إسحق السرياني، نسكيّات، منشورات النور، 1983 (أعاد دير مار مخايل في بقعاتا طبعه منقَّحًا سنة 1998).
-القديس يوحنا السينائي، سلَّم السماء، دير سانت كاترين بسيناء، القاهرة، طبعة 1، 1985 (طبعة 2، 1998).
-كيف نحيا مع الله، مختارات إفِريِتينوس، الجزء الرابع، منشورات التراث الآبائي، 1991.
-كيف نحيا مع الله، مختارات إفِريِتينوس، الجزء الثالث، منشورات التراث الآبائي، 1991.
-رسائل الشيخ المغبوط الذكر الراهب باييسيوس الآثوسي، منشورات دير الشفيعة الحارّة، بدبّا، الكورة، 2000.
-الراهب باييسيوس الآثوسي، المغبوط جاورجيوس (الحاج جرجي الآثوسي)، منشورات دير الشفيعة الحارّة، بدبّا، الكورة، 1997.
-الراهب باييسيوس الآثوسي، سيرة الأب تيخُن الآثوسي، الأردن، ؟؟198.
-الراهب جيراسيموس الآثوسيّ، خدمة أبينا البارّ المتوشّح بالله مارون، منشورات مطرانية الروم الأرثوذكس، اللاذقية، 1993.
صلاته فلتكن معنا
عن أخيه أنطون
تدوين الأب ملحم، صهر أخيه أنطون

 

 

من سيرة الأرشمندريت إسحق عطاالله