...

القديس مكسيموس المُعتَرِف

 

 

في الثالث عشر من شهر آب تقيم الكنيسة المقدسة تذكار نقل رفاة القديس مكسيموس المُعتَرف، الأب الممتلئ من الله واللاهوتي العلامة والمدافع الذي لا ينثني عن الإيمان المُستقيم (راجع سيرته مفصلة في السنكسار، 21 كانون الثاني). ترك القديس مكسيموس للكنيسة إرثاً أدبياً بالغ العُمق والوفرة والغنى. فقد كتب كثيراً في اللاهوت العقائدي تفسيراً ودفاعاً، وله تفاسير عميقة جداً في الكتاب المقدس. للقديس مكسيموس أيضاً شروحات حول كتابات آباء كبار مثل ديونيسيوس الآريوباجي وغريغوريوس اللاهوتي، وله أيضاً كتابات عديدة في الحياة الروحية والنسكيات، وفي الأسرار المُقدسة. يستحيل علينا الخوض هنا في لاهوت القديس مكسيموس وإرثه الأدبي الوافر، ولكننا سوف نحاول الإضاءة على واحد من مؤلفاته هو “حياة العذراء”، سيما وأننا في موسم عيد رقاد الكلية القداسة والدة الإله.

في أبحاثه حول حياة الكلية القداسة والدة الإله، إنطلق القديس مكسيموس من فَرَضية لامست عنده اليَقين مفادها أنه لم يكن للعذراء القديسة أن تحتل هذه المَكانة السامية في وجدان الكنيسة لو لم يَكُن لها، في مراحل حياة إبنها الإله لا سيما بشارته وآلامه وقيامته، حضورٌ أكبر مما تنقله إلينا الأناجيل الشريفة. سيما وأن رسالة الأناجيل هي حصراً نشر بُشرى الخلاص. هكذا إنطلق إذاً القديس مكسيموس في بَحثه عن جوانب هذا الحضور وتفاصيله، ببالغ الدقة والحرص والتمييز، كتابياً وعقائدياً، جامعاً مواده من نصوص كتابية قانونية وأخرى من الأدب المنحول، وغيرها من مصادرٍ ما عادت معروفة لدينا. لا سيما في ما يختص بآلام ربنا المسيح وبرقاد العذراء القديسة وارتفاعها بالجسد إلى السماء. أما عن استناده إلى نصوص من الأدب المنحول وغيره، إلى جانب النصوص القانونية، فيشدد القديس مكسيموس على أنه اتبع مثال آباء سابقين كبار مثل غريغوريوس النيصصي، غريغوريوس اللاهوتي وأثناسيوس الإسكندري. بالإجمال تظهر الكلية القداسة، في “حياة العذراء” للقديس مكسيموس، كرفيقة درب إبنها الإله لا من خلال أمومتها وحسب بل في مسيرته البشارية أيضاً، وقائدة الجماعة الكنسية الناشئة منذ العنصرة، والمصدر الأساس للعديد من التفاصيل الإنجيلية حول حياة يسوع.

في افتتاحية “حياة مريم” يدعو القديس مكسيموس “شعوب الأمم كلها” أن يسمعوه ويشاركوه في “إكرام الطاهرة والفائقة البركات والدة الإله، الدائمة البتولية مريم”، والأسلوب الإنشائي الغالب على مدى الكتاب يستعير كثيراً من نشائد وتسابيح القديس رومانوس المرنم (1 تشرين الأول). لم يعمل القديس مكسيموس، في “حياة العذراء”، على إخفاء مشاعره التقوية تجاه الكلية القداسة والدة الإله دون أن ينزلق الكتاب، ولا في أي موضع منه، إلى المبالغات العاطفية التي لا شأن لها بالتُقى الحقيقي بل وقد تنحرف عن العقائد الإيمانية المستقيمة. بهذا الجمع بين الحرص الدقيق للاهوتي المُعلم والتقوى العميقة للمؤمن القديس، يُشعِرُنا القديس مكسيموس وكأن والدة الإله نفسها كانت حاضرة معه وهو يؤلف سيرة حياتها.

يبدأ “حياة العذراء” برواية ميلاد مريم وطفولتها، وصولاً إلى بشارتها بالحبل الإلهي. هنا يتوسع القديس مكسيموس في تفسير كلام رئيس الملائكة جبرائيل للبتول القديسة مُبَيناً أن بتولية مريم بالجسد والروح، جعلت منها لا محلاً لتجسد ابن الله وحسب بل ومعبراً إلى تحرر حواء، وتالياً المرأة عموماً، من اللعنة الأولى. ويبقى الشرط البديهي، لتحقق هذا التحرر على المستوى الفردي، هو الاقتداء بمريم التي اختارت طوعاً وسلكت بملء إرادتها في أن لا يكون فيها شهوة إلا لما لله. في ما يلي من الكتاب يشدد القديس مكسيموس على أن العذراء القديسة، وإن كانت منذ البدء عالمة أن ابنها هو الرب الإله، لم تتأثر أمومتها تجاهه البتة. لا لجهة عطف الأم وحنانها وإخلاء ذاتها كلياً من أجله وحسب بل وكالسند الداعم له أيضاً. هذا ويروي القديس مكسيموس كيف أن العذراء القديسة كانت تفرح بابنها إلى حد أنه لما فرغت الخمر في عُرس قانا الجليل، “كانت شهوة قلبها” أن تراه يتمم المعجزة فيظهر مجده الإلهي للكل. أما ابنها الإله فأطاعها وأتم لها ما أرادت بالرغم من أن ساعته لم تكن أتت بعد. ومنذ ذلك اليوم، صارت ملازمة له ترافقه وتحفظ كلامه في قلبها طيلة حياته على الأرض. هذا ويضيف القديس مكسيموس أن العذراء القديسة، بملازمتها يسوع على هذا الشكل، صارت قدوة لنساء أخريات فأردن التمثل بها وصرن لها تلميذات. لكنها ولا للحظة أرادت حصرهن بها بل كانت هي الوسيطة والمُرشِدة لهن إلى ابنها الإله. أبرز هؤلاء النسوة، بحسب القديس مكسيموس، وأقربها رفقة للعذراء القديسة كانت مريم المجدلية. لعل هذا ما أعطى هذه الأخيرة، دائماً بحسب القديس مكسيكوس، هذا الزخم والغَيرة اللذين تحلت بهما، حتى الشهادة، في نشر بشارة يسوع. يصفها القديس مكسيموس بإكرام فيقول: “كما كان بطرس بين الرجال، هكذا كانت المجدلية بين النساء”.

واحد من الموضوعات الأكثر شداً للانتباه، في “حياة العذراء”، هو حضور مريم المحوري طيلة مراحل آلام ابنها الإله، منذ العشاء السري. فعلى ما يؤكده القديس مكسيموس، كانت مريم المصدر الأساس لمعظم التفاصيل الإنجيلية عن أيام ابنها الأخيرة. فهي الشخص الوحيد الذي لازمه بلا انقطاع من لحظة الإعتقال حتى القيامة. وعندما منعها الحراس من حضور مثول يسوع أمام حنان وقيافة، يقول القديس مكسيموس، كانت مريم تستوقف الخارجين والداخلين لتجمع منهم تفاصيل المحاكمة.

مشهد حُزن مريم في الكتاب، طيلة خضوع يسوع للمحاكمات وللتعذيب فيما بعد، بالغ العمق والتأثير. ولكنه ليس حزناً مُحبَطاً إذ نراها تتجاوز ترهيب الحشود والخوف من الحراس مرافقة ابنها حتى أقدام الصليب. مرة أخرى يؤكد القديس مكسيموس على أن معظم الأقوال والأحداث والتفاصيل، التي سبقت وتلت موت يسوع، مريم هي التي نقلتها إلى الرسل وسائر التلاميذ. “بهذا، يا والدة الرب القديسة، جاز السيف في قلبك كما سبق فتنبأ لك سمعان”، يقول القديس مكسيموس مُخاطباً العذراء القديسة. في ما يتبع من كتابه يروي القديس مكسيموس أن العذراء القديسة لازمت ابنها حتى القبر، حيث بقيت وحدها هناك لتبكي كما كانت عادة أقربي الميت آنذاك مما يجعلها، كما يقول القديس مكسيموس، الشاهد الأول على القيامة. أما عن لماذا لم يُذكَر هذا في الأناجيل الشريفة فيقول القديس مكسيموس أنه لكي لا يشكك أحد بخبر قيامة السيد إذا بشرت به أمه، مُستغلاً عاطفة الأم ليشكك بمصداقيتها في هكذا شهادة.

في “حياة العذراء” أن الكلية القداسة بقيت، بعد صعود الرب وحلول الروح القدس يوم العنصرة، تشدد عزيمة الرسل وتحضن التلاميذ الجدد وتقوي إيمان المتزعزعين، حاملة إبنها الإله في قلبها وأقوالها وأفعالها. وعندما قاربت الثمانين من العمر أتى إليها رئيس الملائكة جبرائيل، كما يوم البشارة، وأنبأها بقُرب رقادها. وأيضاً كما في يوم البشارة، أجابته القديسة العذراء قائلة “ليكن لي بحسب قولك”.

الأب نكتاريوس خير الله

الأحد 9 آب 2015

 

 

 

 

 

 

القديس مكسيموس المُعتَرِف