...

التبرير بالإيمان

رغم حماوة المناظرة ضدّ المتهوّدين في العصر الرسوليّ، والتي أدّت إلى التركيز على تعليم «التبرير بالإيمان» في بعض رسائل بولس، لا يكاد يشكّل هذا المنحى اللاهوتيّ حول «كفّارة المسيح»، مفتاحًا لفهم لاهوت بولس – كما فضّل دائمًا تصويره المناظرون في الغرب.

مقاربة فكر بولس، كما نتعرّف إليه من رسائله، تُظهر أنّ الجهد الأكبر لديه ينصبّ على لاهوت الكنيسة – الجماعة جسد المسيح.

هذا لا يعني بالتأكيد أنّ لاهوت «التبرير بالإيمان» يأتي لديه في إطار ثانويّ. بل على العكس، إعلان الله في المسيح، هو الكشف عن الإله البارّ الذي تكلّم عليه أنبياء العهد القديم. هذا الجانب من العلاقة المسيحيّة مع الله يشكّل قلب لاهوت بولس عن الإعلان الإلهيّ.

يَظهر إلله – إله البِرّ، في مجمل الكتاب المقدّس، لا فقط لدى بولس، أمينًا لعهده ومخلِّصًا لشعبه عبر أعمال رحمته العظيمة. ذروة عمل الفداء هذا، هو الفعل الذي عبره يجعل هذا الإله البارّ الإنسان نفسه مُبرَّرًا: «الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية ٣: ٢٥-٢٦).

هذا الفعل الإلهيّ، الذي يبَرَّر بواسطه الإنسان، هو بكلّيّته هديّة مجّانيّة: نعمة إلهيّة. ما من إنسان جدير بهذه النعمة أو مستحقّ لها، لأنّ «الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (٣: ٢٣). المجّانيّة المُطلَقة لفعل التبرير الإلهيّ، هي الحجر الأساس في جدليّة بولس بأنّ الذين تبرّروا بالمسيح لا حاجة لهم إلى تبرير أنفسهم باتّباع الناموس الموسويّ. هكذا، صاغ بولس عقيدة التبرير بالإيمان في مواجهة المتهوّدين معاصريه، واضعًا الأساس لخطوة جوهريّة في تطوّر لاهوت الكنيسة – جسد المسيح. إعلانه هذا المبدأ، أسّس عند تطبيقه، لعمليّة فصل اليهوديّة عن الكنيسة. تبرز آثار صدمة تعاظم هذا الشرخ في الكنيسة الأولى، في رسائل بولس وفي كتاب أعمال الرسل.

الفعل «برّر»، كما يرد في الترجمة السبعينيّة، يعني بالعادة: إعلان البِرّ. وهذا المعنى ممكن تفهّمه في العهد القديم، في إطار عهد لم يكن قادرًا على تبرير الناس، ولا عبر ذبائح عجول وكباش لم يمكنها أن تغسل خطايا البشر.

لكن لا يمكن مقاربة المعنى ذاته في إطار العهد الجديد، حيث لا يمكن اختزال عمليّة تبرير الإنسان بالمسيح، بمجرّد «إعلان» – كما قد تُعلنُ جهةٌ رسميّة براءة أحدهم مثلاً. لا، لأنّ كلّ ما يقوله الله الخالق يُتمّمه. التبرير في العهد الجديد هو حقيقة وجوديّة لا مجرّد أدب قانونيّ. كلّ ما يُعلنه الخالق يكون.

فكيف يجعل الله الإنسان بارًّا إذًا؟ الجواب: عبر مطابقته بالمسيح، بابنه الحبيب، وذلك عبر عمل النعمة الإلهيّة الداخليّ. عمليّة التماهي مع المسيح هي ما يبرّر الإنسان أمام الله، لأنّ المسيح هو البارّ وحده. لهذا على سبيل المثال، لم يعلّمنا السيّد أن نصلّي «أبي» بل «أبانا الذي في السموات» – بمعيّة المسيح فقط تصير البنوّة ممكنة (متّى ٦: ٩-١٣)، مع المسيح وبه ننال نعمة التبنّي. وفي مَثَل العذارى العشر أيضًا: تلك اللواتي دخلن «بمعيّة» العريس احتفلن بالعرس، أمّا اللواتي عُدن بدونه فلم يتعرّف إليهنّ، ولم يفتح لهنّ (متّى ٢٥: ١-١٣).

من هنا يجب التمييز أنّنا بخطيئة آدم لم «نُعلن» خطأة، ولكن نحن قد «جُعلنا» خطأة. هكذا يوضح بولس، أنّنا بالمسيح «جُعلنا» أبرارًا: «لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا» (٥: ١٩).

لا برّ للإنسان من نفسه، هو يتلقّى برّ الله. يتبرّر المؤمن عبر اقتباله، في كيانه الشخصيّ، إعلان برّ الله في المسيح: «بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ» (فيليبّي ٣: ٨-٩).

برّ الله هو حقيقة داخليّة، هو تغيير لقلب الإنسان، وفعل النعمة المُبرِّرة التي عبرها يصير المؤمن بارًّا، لأنّ الله: «جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيئةً، خَطِيئةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التبرير بالإيمان