...

الرّجل والمرأة في المسيح

 

 

   عندما أبدى الرّسول المصطفى أنّه، في المسيح، لا رجل ولا امرأة، أرسى، بينهما، علاقة جديدة، مستمددة من علاقتهما بالسّيّد الرّبّ الإله. طبعًا، الاختلاف، في التّكوين، في ذاته، لا يُثيب ولا يُعيب، وهو، في المسيح، في كلّ حال، وعلى كلّ صعيد إنسانيّ، غنًى، ولا نقيصة فيه!. ورأى الله أنّ كلّ شيء كان حسنًا!. أصلًا، ليس اثنان، لا بين الرّجال ولا بين النّساء، متماهيَين، في السّمات الطّبيعيّة!. هي عظمة الله تبدع، في كلّ آدميّ، فرادةً فذّة!. ثمّة، في كلّ اثنين، سمات تتلاقى وأخرى تتمايز!. على أنّ الرّجل والمرأة يتكاملان، كواحد، كجسد واحد، في شركة إنجاب الحياة الّتي برأها الله، أوّلًا، أعني طاقة الأبوّة في الرّجل وطاقة الأمومة في المرأة!. ليس أحد منهما في ذاته!. الخروج على الطّبيعة، في هذا الإطار، انحراف مآله تدمير الإنسان ذاته!. ما هو بخلاف الطّبيعة يشوّه الإنسان!. قوّة الحياة فيه تستحيل قوّة إبادة!. فكّ الرّباط الوجدانيّ الكيانيّ بين صورة الرّجل الأب وصورة المرأة الأمّ، من جهة الخليقة، أو احتسابُ وجود رباطات أخرى، أيضًا، في المستوى عينه، بين رجل ورجل، وامرأة وامرأة، عبثيّة فتّاكة!. الطّبيعة لِتصون، والخروج على الطّبيعة تكريس غرور أرعن وتفكّك!. فإذا ما حافظنا على حدود الطّبيعة، أمكننا أن نرتقي، في المسيح، إلى مراقي الأخوّة الرّوحيّة!. هذا هو المبتغى، في نهاية المطاف!. كلّ مسعى إلى تكريس إفساد الإنسان طبيعتَه، كما لتطبيعه في المسيح، إهانة لروح الرّبّ، وعملٌ من أعمال ضدّ المسيح!.

   في هذا الإطار، لا سيادة، في المسيح، لرجل على امرأة، ولا لامرأة على رجل، بل للمسيح، ولا فضل لأحد على الآخر، لا بجنس ولا بمقام، إلّا بالتّقوى!. لا الرّجل للمرأة ولا المرأة للرّجل، بل كِلاهما للمسيح، ومن ثمّ أخت وأخ، لا لأنّهما يأتيان من طبيعة واحدة، بل، بالأحرى، لأنّهما يأتيان من روح واحد، وقِبلتهما، أبدًا، الآب!. “أبانا… ليتقدّس اسمك كما في السّماء كذلك على الأرض…”!. والأرض إيّانا لأنّنا منها!. أنت من التّراب!. المسعى، في الرّوح، إذًا، هو إلى الأخوّة!. وكلّ ما لا يهدف إلى الأخوّة ناشز، وليس من الله، بل من هوى الإنسان، وتاليًا من إبليس!. وكذلك كلّ مَن يدعم، بالله، نزعةً ليست من الله، يخطئ وليس الحقّ فيه!. لذا لا يَعرف الرّجل ولا تَعرف المرأة حرّيّة علاقة الأخوّة بينهما، ما لم يتحرَّر كلّ منهما، أوّلًا، من نفسه!. ولا يتحرّر أحدٌ منهما من نفسه، إلّا متى التزم نفسَه، بمحبّة المسيح، خادمًا للآخر، من أجل الخلاص!. مع المسيح، لا قضيّة، بعدُ، بين الرّجل والمرأة، إلّا قضيّة المسيح!. لست أشاء أن أعرف شيئًا، بعدُ، بينكم، أي مسرًى لنفسي، إلّا يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا، أي مبذولًا بالمحبّة الكاملة، إلى المنتهى، على قولة الرّسول المصطفى!.

   الرّجل، كما يتمثّل، واقعًا، بعامّة، كنتاج تاريخيّ، وكذا المرأة، ليسا كما يشاؤهما الرّوح، لأنّهما إرث تفاعل الخطيئة في الطّبيعة البشريّة!. مشكلة كلّ منهما نفسُه لا الآخر!. موقفه من الآخر لا الآخر في ذاته!. ما يستدعي تطهُّرًا، لكلٍّ، من أدران ذاته!. غير صحيح أنّ يسوع رجل وليس امرأة، لأنّه ليس مثلنا، في الحال الّتي نحن عليها!. يسوع هو الإنسان الجديد، الّذي يزول فيه رجل السّقوط وامرأة السّقوط!. لا نقرأه في ضوء ما نحن إيّاه، بل نقرأ أنفسنا في ضوء ما هو إيّاه، لنعرف ما علينا أن نصير إيّاه!. ليس الموضوع موضوع ما هو يسوع بالمعنى التّشريحيّ للكلمة، هذا لا طائل تحته، بل ما هو يسوع بالمعنى الكيانيّ للكلمة!. كيانيًّا، يسوع هو الإنسان الكامل!. إذًا، هو الرّجل المتروحن والمرأة المتروحنة معًا، في آن واحد!. إذا ما احتاجت البشريّة، في التّدبير الإلهيّ، إثر السّقوط، في التّاريخ، إلى دخول المرأة والرّجل في علاقة زواج، إعدادًا، بالتّناسل، لتجسّد المسيح، فليس الزّواج، بينهما، تدبيرًا أبديًّا!. هما يأتيان من أخوّة في الفردوس!. في الأخوّة تكمن الوحدة الحقّ!. ثمّ، في الملكوت لا يزوِّجون ولا يتزوّجون!. القول بأنّ الله برأ آدم ثمّ أخرج حوّاء من ضلعه، قد يبدو كأنّه يحدّث، بدءًا، عن مجتمع رجليّ، يجعل المرأة من تبعيّة الرّجل؛ هذا، في الظّاهر، إذ المرأة من الرّجل والرّجل بالمرأة، كما قال بولس المصطفى؛ أمّا، في المسيح، فيخرجان كلاهما من جنبه، بالدّم والماء، أي يصيران، كلٌّ، إنسانًا جديدًا!. هي النّعمة تكمل النّاقصين. بروح الله يتكمّل الرّجل، وتتكمّل المرأة. لذا، إلى القدّيس وإلى القدّيسة نتطلّع لنلتمس الإنسان الجديد، نسل آدم الجديد، في الرّوح والحقّ!.

   من الموضوعات المطروحة، تلقاءً، متى حدّدنا إطار علاقة الرّجل بالمرأة، على النّحو الّذي أبنّاه أعلاه، موضوع كهنوت المرأة. هذا يعتريه، بالطّريقة الّتي يُطرح فيها، لَبْس كبير!. لا لاهوت قويمًا، بالمعنى الصّارم للكلمة، يبرِّر أحقّيّة الرّجل، بالمطلق، في الكهنوت، من دون المرأة، ولا حقّ المرأة في الكهنوت نظير الرّجل!. لا علاقة للمسألة لا بالذّكورة ولا بالأنوثة، بل بما يوافق!. نحن في مجتمع ذكوريّ، لذا نحتاج إلى كهنوت وظيفيّ ذكوريّ!. هذا تقتضيه اللّياقة والتّرتيب، ويحتّمه هاجس بنيان المؤمنين!. الكلام على كهنوت المرأة، في مجتمع رجليّ النّزعة، يشوِّش!. ولا علاقة للموضوع بحقوق المرأة!. هذا ردّ فعل يأتي من روح المنازعة!. كلّ الموضوع موضوع حقّ الرّعيّة علينا!.

   على أنّ هذا لا يمنع أن يكون شعب الله كلّه أمّة كهنة، رجالًا ونساء!. هذه موهبتنا الرّوحيّة جميعًا، في كلّ حال!. هذا الأمر غير ذاك الّذي تكلّمنا عليه أعلاه. هناك خدمةٌ يؤدّيها كاهن لرعيّة، وهنا خدمة يؤدّيها كلّ مؤمن لله!. السّيّد الرّبّ أزال الهيكل وألغى الكهنوت التّاريخيَّين!. هو صار المذبح والذّبيح!. ونحن نحاكيه، كلٌّ، ذبيحة إيمان، نرفعها على مذبح القلب!. لجّة تنادي لجّة!. محبّة تنادي محبّة!. ذبيحة تنادي ذبيحة!. المبتغى أن نصير أمّة كهنة محقّقة إلى الأبد!. لكنْ، هذا نُرعى عليه بالنّعمة وخدمة المحبّة والكلمة والأسرار!. وهذا هو دور الكهنوت الوظيفيّ في الرّعيّة، ههنا، إلى أن يتكمّل المؤمنون بالنّعمة والقامة!. في الملكوت، لا خدمة كهنوت خاصّة، بعد!.

   الأخوّة، في المسيح، نُعطاها من فوق، ونتروّض عليها، هنا، في آن معًا!. كيف؟ بالاتّضاع الفاعل بالمحبّة!. ليس الأمر وقفًا على ما لطبيعة الرّجل أو المرأة، بل على المعطي من فوق أوّلًا!. إذا كان بولس الرّسول قد قال إنّه يستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيه، فهذا شاملٌ الجميعَ، رجلًا وامرأة!. وإذا كان بولس قد استبان على رجولة فولاذيّة، في التّصميم والجهاد، فقد استبان، أيضًا، على أمّهيّة أحشائيّة فائقة، في الرّقة والدّمع والبذل!. هي المحبّة الإلهيّة، أو قل الله فينا، يأتينا بهذا وذاك معًا، برجولة كاملة وأنوثة كاملة، كوحدة واحدة!. هذا صنيع روح الله إن اتّضعنا!. الرّجولة الحقّ لا تعود من دون الأنوثة الحقّ، ولا العكس بالعكس!. هكذا يكمِّل الرّوحُ الإنسانَ الجديد، واحدًا!. وعلى صورة الإله المتجسّد، تتّحد الرّجولة والأنوثة، في الرّوح، إنسانًا واحدًا جديدًا!. لكنّ هذا، في الحقيقة العميقة، ليس موضوع إنسان جديد، بالمعنى الإنسانيّ الحصريّ للكلمة، بل موضوع الإنسان المتألِّه!. الإنسان الجديد هو الإنسان المتألّه!. هذا نسل آدم الجديد، الإله والإنسان معًا!. فقط بالنّعمة يتكمّل؛ فقط بالتّألّه يتكمّل!. ما خَلق اللهُ الإنسان إلّا ليجعله إلهًا بالنّعمة!. هذا هو الإنسان الجديد، وإلّا لا جديد!.

   أمّا، بعد، فقد تمّت المصالحة، في المسيح!. صالحَ يسوعُ الرّجلَ والمرأةَ في ذاته، أو قل الرّجولة والأنوثة في الرّوح!. ما عادا في صراع ونزاع!. ما عادا منشطِرَين!. انتظما، بالرّوح، في وحدة القلب والكيان!. صارا جسدًا واحدًا، في الرّوح، ولكنْ، لا جسد الرّجل ولا جسد المرأة، بل جسد المسيح!. السّقوط حَمَلَ لا الانقسام وحسب، بل العداوةَ، أيضًا!. المرأة المقهورة في المجتمع الرّجليّ، الباحثة عن حقوق مهدورة، في هذا المجتمع الدّهريّ، مجرّد ردّة فعل، تُباعد ولا تقرِّب، تفرِّق ولا توحِّد!. وهذا يكرِّس الغربة والعزلة والعداوةَ ويرسِّخها نحو فراغٍ لا ما يملأه!. في المصالحة، يكفّ كلٌّ عن طلب ما لنفسه، بعدُ، ليلتمس ما للآخر، أو، بكلام أدقّ، ليلتمس المسيحَ في الآخر!. وحدها محبّتهما لمسيح الرّبّ، تجعلهما في تحابّ، وتحقّق كهنوتَهما، في المعيّة، كلًا، بإزاء الآخر، إذ يقدّمَ كلٌّ، كإبراهيمَ، بمعنًى، حشاه، إسحقَ، ذبيحةَ محبّةٍ وتسبيحٍ، محاكاةً لحمَلِ الله!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان

عن “نقاط عاى الحروف”، الأحد 1 تشرين الثاني 2015

 

 

 

 

 

الرّجل والمرأة في المسيح