...

عن الصليب – للقديس يوحنا الدمشقي

 

لا يمكن خلق الكائنات بالتفكير البشريّ -الإيمان ضرورةٌ عامة- ما هو الإيمان: “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالةٌ. وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله” (1كور 1: 18). “فإن الروحي يحكم في كل شيء” (1كور 2: 15). “أما الإنسان الحيواني فلا يُدرك ما لروح الله” (1كور 1: 14). فإنها لَجهالةٌ عند الذين لا يقتبلون ذلك بإيمانٍ ويشكّكون في صلاح الله واقتداره العام، بل يدقِّقون في بحث الإلهيات بأفكار بشريّة وطبيعيّة، لأن كلّ ما يتعلّق بالله هو فوق الطبيعة والنطق والتفكير. فإذا تساءل أحدهم كيف وبماذا ولماذا أخرج الله كل شيء من العدم إلى الوجود، وأراد أن يعبّر عن ذلك بأفكار طبيعيّة، فهو لا يستوعبّ÷ وتكون معرفته نفسها طبيعية وشيطانية. أما إذا هو انقاد على هدى الإيمان وفكّر بإنّ الإله صالح وقدير وصادق وحكيم وعادل، فهو يرى كل شيء سهلاً وممهّداً، والسبيل إليه رحباً. فإنه الفلاّح بدون إيمان لا يشقّ أرضاً إلى أَتلامٍ ولا التاجرُ بدون إيمان يزجُّ بنفسه على خشبة صغيرة في لجّة البحر الهائج، ولا الزواجات تقوم، ولا أي شيءٍ آخر مما في الحياة. فبالإيمان نفهم خروج كل شيء من العدم إلى الوجود بقوّة الله، وبالإيمان نقدِّر كل الإلهيّات والبشريّات قدرها. فإنّ الإيمان اقتناع لا يتخلّله أبحاث فارغة!

ليس من شيء أعجب من صلب المسيح. فوائده: إذاً فإنّ كلّ أعمال المسيح ومعجزاته عظيمة جداً وإلهيّة وعجيبة. بيد أنَّ أعجبها كلها صليبُه الكريم. فلولاه لما بَطُلَ الموت أبداً ولا انحلَّت خطيئة أبينا الأول ولا سُلب الجحيم ولا مُنحت القيامة ولا أُعطيت لنا قوّ’ لاحتقار الأشياء الحاضرة والموت نفسه ولا تمهَّدَ السبيل للعودة إلى السعادة القديمة ولا فُتحت أبواب الفردوس وجلَستْ طبيعتُنا إلى ميامن الله، ولا صرنا أبناء لله وورثته، لولا كان بصليب ربّنا يسوع المسيح، لأنّ كل شيء قد اصطلح بالصليب. ولذا فإنّ الرسول يقول: “إنّ كل من اصطبغ منّا في يسوع المسيح اصطبغ في موته” (رومة 6: 3)، و”نحن جملة من اعتمدنا في المسيح قد لبسنا المسيح” (غلاطية 3: 27)، و”المسيح قوّ’ الله وحكمة الله” (1 كور 1: 24). فهوذا موت المسيح -أي صليبه- قد أَلبسنا حكمة الله وقوّته الأقنومية. والكلمة، كلمة الصليب، هو قوة الله، ذلك لأنه اقتدار الله، ولأنه انتصر على الموت وبه قد ظهر لنا، ولأنه -على نحو ما أنَّ أطرافَ الصليب الأربعة ترتبط وتشتدُّ في نقطتها الوسطى-، كذلك، بقوّ’ الله، يجتمع العلوُّ والعمقُ والطولُ والعرضُ أي الخليقة كلها، ما يُرى وما لا يُرى.

إشارة الصليب تمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين: والصليبُ قد أُعطي لنا سمةً على جبهتنا، على نحو ما دُفعتِ الختانة لإسرائيل. والمؤمنون يتميّزون بواسطتها من غير المؤمن فنعرفهم. وهو ترسٌ وسلاحٌ وفوزٌ ضدَّ إبليس، وهو ختمٌ كي لا يمسَّه مبيدُ الكلّ، كما يقول الكتاب. وهو نهوض الساقطين وسندُ الواقفين وعكّاز الضعفاء وعصا الرعاة وإرشاد المرتدّين وكمال الفائزين. وهو خلاصٌ للنفس والجسد، وتنقيةٌ من كل الشرور ومجلبةٌ لكلّ الخيرات، وإزالة الخطيئة ونبت القيامة وعودُ الحياة الأبدية.

السجود لعود الصليب ولسائر ما قدَّسه المسيح بلمسه إياه: إذاً فيجب السجود للعود الكريم حقاً والمستحقّ الإكرام الذي قرَّب عليه المسيحُ ذاته مذبوحاً لأجلنا، وقد تقدّس بلمسه الجسدَ والدمَ الأقدسين. ويجب السجود أيضاً للمسامير والحربة وثيابه، ولمساكنه التي هي المذود والمغارة والجلجلةُ وقبرُه الخلاصي الميحييّ ولصهيون أُمّ الكنائس ولأمثالها، على ما يقول داود أبو المسيح إلهنا: “لندخل إلى مساكن الربّ ولنسجد لموطئ قدميه” (مز 131: 7). والبرهان على أنه يعني بذلك الصليب، يُؤخذ مما يأتي: “قمْ أيها الرب إلى راحتك” (مز 131: 8)، لأن القيامة تتبع الصليب. فإذا كان الحبيبُ يحبُّ من محبوبه بيته وسريره ولباسَه، فكم بالأحرى كثيراً يجب أن نُحبَّ -من إلهنا ومخلِّصنا- ما بواسطته صرنا مخلَّصين!

يجب السجود لرسم الصليب، على أنه إشارة المسيح، ولا ينبغي السجود لمادة الصليب: ونحن نسجد أيضاً لرسم الصليب الكريم المحيي ولو كان من مادة أخرى، لأننا لا نكرم المادّة، حاشا! بل الرسمَ، على أنه رمزُ المسيح. وقال قال هو بوصيته لتلاميذه: “وحينئذٍ تظهر علامة ابن البشر في السماء” (متى 24″ 30) -دالاًّ بذلك على الصليب-. لذلك قال أيضاً ملاك القيامة للنسوة: “إنكنَّ تطلبنَ يسوع الناصري المصلوب” (مرقس 16: 6)، لأن كثيرين هم الذين يتكنَّون بالمسيح وبيسوع، ولكنَّ المصلوب واحد. وهو لم يقل: المطعون بحربةٍ، بل المصلوبَ. وعليه يجب السجود لعلامة المسيح، لأنه حيثما تكون العلامة يكون هو نفسه أيضاً. أمّا المادة المعمول منها رسمُ الصليب، ذهباً كانت أم حجارة كريمة، فإذا حدث أن زالَ الرسم، لا ينبغي لها السجود. وعليها فإننا نسجد لكل ما يُنسب لله، مركّزين عبادتَنا عليه.

إن عود الحياة رمز للصليب: إن عود الحياة – ذاك الذي قد غرسه الله في الفردوس – كان قد سبق ورمز إلى الصليب الكريم. فلمّا دخل الموت إلينا بالعود، وجبَ أن تُعطى لنا بالعود الحياة والقيامة. ويعقوب الأول لمّا سجد لرأس عصا يوسف قد صوَّر الصليب، ولما بارك ولدَيْه بيديه المتعارضتين، رسمَ علامة الصليب رسماً جليّاً جداً. وإن عصا موسى -بضرب البحر بها في شكل صليب- أنقذت إسرائيل وغرَّقت فرعون. وإنّ يديه المبسوطتين على شكل صليب قهرتا عماليق. -والماء المرّ قد صار حلواً بالعود وانفلقت الصخرة وجرت منها المياه. – وإن عصاً أيضاً قد احتفظت لهارون برئاسة الكهنوت. والحيّة لما رُفعت على عود وقد بدت مائتة، خلَّص العود أولئك المؤمنين الناظرين إلى عدوّهم مائتاً. ذلك على مثال المسيح الذي لم يعرف خطيئة وقد سُمِّر بجسد الخطيئة. لذلك صرخ موسى العظيم قائلاً: “أنظروا إلى حياتكم على عود معلّقة تجاه أعينكم” (تثنية 28: 66). وقال أشعيا: “بَسطتُ يديَّ النهار كلّه نحو شعبٍ عاصٍ يسلكون طريقاً غير صالح وراءَ أفكارهم” (أشعيا 65: 2). أما نحن الساجدين له عسانا نحظى بالنصيب مع المسيح المصلوب!

 

عن كتاب “المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي”
القديس يوحنا الدمشقي