...

عـرشُ النّـعـمـة

 

“فلنتقدّمْ إلى عرش النّعمة لننالَ رحمةً للإغاثة في أوانها”

يقارن بولسُ الرسول في الرسالة اليوم بين أمرَين. الأمر الأوّل هو عرشُ الله في العهد القديم والعهد الجديد، والثاني هو طبيعة عمل رئيس الكهنة في العهدَين. وتضع لنا الكنيسة هذه المقارنة في وسط الصوم لما فيها من غذاء روحيّ و”رحمة”.

“عرشُ الله” يعني الكرسيّ الذي يُظهره ملكاً. فالله هو الملك، وبالوقت ذاته هو العادل كما عرفه الناس في العهد القديم. وأمام عرشه سيُدانُ الجميعُ: “جلستَ على العرش يا ديّان العدل” (مز 9، 4). ولقد رأى دانيالُ القديمَ الأيام جالساً على عرش الدينونة (7، 9). وأعلن الربُّ يسوع أنّه: “متى جاء ابن الإنسان في مجده (المجيء الثاني) وجميع الملائكة القدّيسين معه فحينئذٍ يجلس على كرسيّ مجده” (متى 25، 31). ولم يتصوّر البشرُ اللهَ الملكَ إلاّ كإله عادل، يجازي كلّ إنسان بحسب أعماله.

رئيس الكهنة، من هذا المنظور، هو مَن يعلِّم شريعةَ الله ويحاول أن يحافظ عليها بين شعبه، فيقضي بينهم بموجبها لتقوم هي ويُدانوا هم حين يسيئون إليها. يقوم رئيسُ الكهنة بالحكم والعدل مقام الله بمقدار ما هو مستطاع. إذن عرش الله في السماء، والله ديّان عادل، ورئيس الكهنة قاضٍ حازم يعمل بالشريعة الإلهيّة. وهذه هي فكرة البشر عن الله في الزمن السابق لعهد النعمة، وذلك في كلّ الأديان والفلسفات. هذا العدل يَنهي العثرة القائمة في هذا الدهر، الناتجة عن إشكاليّة انتشار المظالم وغياب الحقّ، فيأتي عدلُ الله في الاسختا (الدهر الآتي) ليعزّي ويفسّر المحبّة الإلهيّة!

عرشُ الله، في العهد الجديد، صار “الصليب”! عليه جلس الحاكمُ والملكُ الجديد! لذلك يبدّل بولس في التسمية، فيدعو العرش هذا “عرش النعمة”، بدل عرش العدل! وما رآه دانيال سابقاً، أنّ الله سينـزل على عرشه ويعدل، عبّر عنه سفرُ الرؤيا بصراحة أنّ الله – الربّ يسوع- سينـزل ويظهر يوم مجيئه الثاني وهو حامل صليبه! لقد تبدّل العرش الإلهيّ منذ صُلبَ يسوع فأخذ شكلَ “الصليب” بدل “الكرسيّ”! ملكنا هو يسوع المصلوب جهالةً للأمم وعثرةً لليهود!

رئيس الكهنة الأعظم هو يسوع المسيح. وكلّ كاهن أو رئيسُ كهنة، لا بل كلّ راعٍ، أَكان أباً أو أمّاً أو معلّماً أو خادماً…الخ يستمدّ من كهنوت المسيح صورته. هذا الكهنوت الجديد هو كهنوت الله الراعي. الله ليس “العادل” بل “العاضد”. لقد كشف العرشُ الجديد وكذلك صورةُ المصلوب أوضحت أنّ الله ليس الحاكمَ على أعمالنا بل شريكُ جهادنا، ومَن يشكّ بذلك فلينظرْ إلى أيّ مقدار يشاركنا جهادنا، وليتأمّل بالمصلوب الذي حمل عاهاتنا وصُلب لأجل معاصينا، وبجروحه شُفينا! الله هو المحبّة المنسكبة علينا من خشبة العرش الجديد. “لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادرٍ أن يرثي لأمراضنا بل مجرَّب في كلّ شيء مثلنا عدا الخطيئة” (عب 4، 15).

عَدَلَ رَبُنّا بالحبِّ وليس بالقضاء! لذلك جاء وشاركنا جهادنا، فلبس بشرتنا وصُلب عنّا (لأجلنا). لم يعد الله هو مَن يحكم بالعدل بين وهننا وبين وصاياه. الله هنا، معنا، عمّانوئيل، يقودنا من ضعفاتنا بيده وبالنعمة، ويجد الخروف الضالّ ويحمله على كتفَيه، لأنّه لا يريد موت الخاطئ بل أن يعود ويحيا. وهذا هو العدلُ في المسيحيّة: عدم الإنقاص، ليس من الواجبات لكن، من المحبّة! رئيسُ كهنتنا هو “مجرَّب في كلّ شيء مثلنا عدا الخطيئة”. لهذا يقول يسوع: “لي قد أُعطي الحكْمُ (القضاء) لأنّي ابن البشر”. لا يحاكمنا الله من فوق بل يعضدنا من هنا، “لقد صار إنساناً ليساعد الإنسان ليصير إلهاً”! لهذا يقول المرنّم: “يا ربّ أنتَ تعرف عدم رقاد أعدائي الذين لا يُرون، وضعف جسدي قد علمتَه يا خالقي، لذلك استودع نفسي في يدَيك يا إله الحقّ…”. حقّ الله هو رحمته. هذه هي طريقة العادلة والمحقّة مسيحيّاً.

“وإذا لنا رئيسُ كهنة عظيم كهذا… يرثي لأمراضنا ومجرَّب بما لنا عدا الخطيئة… فلنتقدّمْ إلى عرشِ النعمة…”. عندما نعاين نحن، المسيحيّين، وهننا وضعفاتنا، ماذا يحصل؟ أَنخاف القضاء؟ أو نيأس من سقوطنا مرّات ومرّات لأنّ القضاء عادل؟ لا! يصرخ بولس، مَن وقع في المعركة لا يبقى طريحاً يائساً بل فلينظرْ من هناك إلى “عرش النعمة” وليحدّقْ بالمصلوب، عندها “سينال رحمة ويجد نعمةً للإغاثة في أوانها”.

رتّبتْ الكنيسة المقدّسة أن نقرأ هذه الكلمات وهذا القانون الروحيّ في منتصف الصوم. لقد انتهى من الصوم المقدار الذي بقي أيضاً منه. فمَن صام عن الطعام وعاش في العفّة والبساطة والمحبّة فليتشجعْ ويكملْ هذه الحياة وهذه الدرب بشكل أمثل. ومَن تقاعس أو أجبرتْه الظروفُ فلا ييأسْ وليتقدمْ إلى عرش النعمة ويبدأ الصوم من جديد، في روحانيّته الكاملة.

ليس الصليبُ القدرَ الأسود الذي يرميه الله على حياتنا، كما يظنّ البعض. يولد لعائلة ابنٌ معوق، لا سمح الله، فيقولون هذا صليبنا! ويُصاب إنسانٌ بمصيبة فيقرّر أنّ هذا صليبه وعليه تحمّله وحمله! لا شكّ أنّ الصبر هي فضيلة مسيحيّة، لكن الصليب ليسَ حمل البلايا! هذه الأخيرة هي الصبر والربّ يعينني فيه. لكن الصليب هو أكثر بكثير.

ما دام عرشُ الله صار الصليبَ عرشَ النعمة، فلم تعدْ دينونتُنا تقوم على الفارق بين أوهاننا وواجباتنا، أي تقصيراتنا. تقوم دينونتنا أمام الصليب عرش الله على أنّنا لم نتقدّم إلى هذا العرش طالبين النعمة. الصليب وضع في وسط الحياة لأنّه والمصلوب عليه نبعُ حياة كلّ مَن ينظر إليه ينجو من لسعة الحيّات وثعبان اليأس وسمّ القضاء العادل القاتل. دينونتنا منذ ذلك الحين أنّنا لا نعطي صليبَ يسوع حقّه، وأنّنا حين نقع لا ننظر إليه لنستمدّ منه غفراناً وقوّة. الصليب هو نبعُ الرجاء حين نسقط. الصليب هو ثبات التوبة. الصليب داعينا كلّ لحظة لنتقدّم إلى عرش النعمة، لننال رحمةً!

هنا في منتصف الصيام نلتفت إلى ما مضى فنرى العديد من الأوهان وربّما هواناً في صومنا ذاته، وننظر إلى الأمام فنرى النصف الثاني ساحة من الزمان لا تشجّعنا على دخولها ضعفاتنا التي سلفتْ. فلننظرْ إلى الصليب إذن، إلى المذبح الذي قدّم عليه يسوعُ ذاتَه لأجلنا، ولنطلبْ منه النعمة للإغاثة فوراً، هذا ما تعنيه الترنيمة التي سنردّدها مع بعض السّجدات هذا الأسبوع أمام الصليب الذي سننصبه أمامنا قائلين: لصليبكَ أيّها المسيح إلهنا نسجدُ ولقيامتك المقدّسة نسبِّحُ ونمجّد، آمين.

المطران بولس (يازجي)

عـرشُ النّـعـمـة