...

صلاة الجماعة

 

«وَبَاكِرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ».

أن تبدأ نهارك وتختمه بالصلاة أمر أساس في حياتك مع المسيح. الصلاة الفرديّة مدخل لك إلى عشرة الربّ تترافق مع صلاة الجماعة، تعزّز وتحفّز أحداها الأخرى. كان الأب الياس مرقس يقول لنا إنّ غالبيّة المؤمنين يثابرون على الصلاة الجماعيّة ويشاركون في النشاطات في الرعايا، أمّا ما يصعب عليهم غالبًا فهي الصلاة الفرديّة. لذا خير دليل على سلامة حياتنا التقديسيّة هو فحص الذات بتلمّس حماسها ومشاركتها في كلّ أوجه الحياة الكنسيّة. صلاة الجماعة احتفال يتخطّى حدود هذه الدنيا.

نستيقظ صباح الأحد، مثل النسوة حاملات الطيب، «باكرًا جدًّا»، ونقصد كنيسة الرعيّة، قبل بدء صلاة السحر، دقائق من الهدوء والصمت هي استعداد مبارك لخدمة نودّ لو تستمرّ إلى ما لا نهاية. تبدأ الصلاة وهي «تذوّق مسبق للملكوت متوّج بالمناولة المقدّسة». ألوان الكنيسة ساحرة: غطاء المائدة الأحمر اللون، والذهبيّ في الأواني الكنسيّة والألوان المتنوّعة في الأيقونات. نحضر حضورًا كاملًا مقدمّين ذواتنا للربّ واضعين مشاكلنا عند أقدام المصلوب، تجانب هموم المؤمنين إخوتنا، لنتزوّد بالقوّة اللازمة لمواجهة حياتنا برجاء لا ينكسر، ويأخذ الألم معنى آخر مختلفًا.

نكتشف إبداع الليتورجيا المكتملة بكلمات وألحان وبناء كنسيّ. فنّ مقدس مكتمل يخدم هدف الجماعة بالتلاقي وعيش صلاتهم الجماعيّة، بشر يتساندون مقدّمين الشكر والتسبيح معًا. إصغاء بفرح وتمعّن وتأمّل بكلّ كلمة تتلى. مدركين أنّ الوقوف في هيكل الربّ بمعيّة من تجمعنا وإيّاهم شركة إيمان ومحبّة وكأس واحدة، سيجعل منّا بشرًا جددًا ولن نخرج كما دخلنا.

أفرد أحد الكهنة كتابًا حول تعلّم الصلاة. يقول في مقدمته إنّ البعض لا يعاني صعوبة في صلواته، بل تراها تنساق منه وينساق إليها بسهولة. أمّا كتابه، كما يقول، فهو لمن كان مثله. يعاني صعوبة كبيرة في ذلك. ويشبّه عمل الروح القدس في الصلاة كدور الريح في تسيير المراكب، داعيًا إيّانا إلى فتح أشرعتنا، أي قلوبنا وعقولنا، كي يقودها الروح وتسير نحو ما دعاها إليه الربّ. أي ألّا تتسّمر في مكانها بتصلبّ وعناد مقيت، بل أن تكون مستعدّة للإبحار بنعمة الروح متحرّكة نحو حياة أوفر. الإنسان أمام تحدّ يوميّ وهو أن يسحب مرساة مركبه التي تعيق تحرّكه ويلقيها داخله لينطلق، أي أن يلقي بما يثقل روحه مهما كان مهمًّا وضروريًّا ليبحر بخفّة مع كلمة الله، لا هربًا من مسؤوليّاته، بل بالعكس تمامًا، ليواجهها من فوق، حيث ينبغي أن يكون، لا رازحًا تحت استعباد الهموم له وكأنّها أزليّة، بل مدركًا أنّها إلى زوال وأنّ له «حياة مستترة مع المسيح» ينبغي ألّا تغفل عيناه عنها، لأنّ بهاءها يغمر حياته بالنور.

لكلّ مؤمن خبرته الفريدة في عيش الصلاة. منهم من يطيع كلمة مرشده، فيزاولها بتواتر. ومنهم من يصارع يوميًّا ليكتسبها عادة مقدّسة. البعض يلتزمها اقتناعًا. والبعض الآخر بعد محنة أصابته. تسبق الطاعة الحبّ أحيانًا وأحيانًا أخرى يأتي الحبّ فنطيعه.

شاركنا أحدهم في خبرته في صلاة سحر الآحاد والقدّاس الإلهيّ قائلًا إنّه التزمها بدءًا لحاجة في الكنيسة إلى من يخدم ويرتّل باكرًا. أحسّ بالواجب واعتبر ذلك تعبيرًا عن جدّيّة التزامه. ثمّ خامره الشكّ، فكان يسأل نفسه صباح الأحد، هل أذهب إلى الكنيسة أم أبدأ يوم عطلتي بنزهة في الطبيعة أو في نشاط آخر لعلّ ذلك أكثر إفادة لي؟ وبعد تردّد في الإجابة كان يذهب إلى كنيسة رعيّته كما كان يفعل في الآحاد السابقة. بعد مدّة قصيرة، وعندما ورد إلى ذهنه هذا التساؤل، أسرع في أخذ قرار وهو أنّه عندما كانت ترد إلى ذهنه الشكوك ذاتها حول أهمّيّة ذهابه إلى الكنيسة صبيحة كلّ أحد، أن يسرع في الإجابة بشكل واضح وبقرار متّخذ مسبقًا، وهو ألّا ينقطع عن القدّاس الإلهيّ يوم الأحد أبدًا، واعتبر أنّ فعل ذلك صبيحة كلّ أحد، أجمل ما يمكن أن يختبره. مع تقدّمه في العمر كما قال، تحوّل الواجب إلى عشق.

من مشاهدات بسيطة لبعض الإخوة في صلواتهم الكنسيّة فرحهم، في صلاة الغروب أو صلاة النوم الكبرى، برؤية أشعّة الشمس الأفقيّة عند المغيب، من الباب الغربيّ للكنيسة وهي تنعكس في الخلفيّة الذهبيّة للأيقونات التي تواجه المؤمنين، بخاصّة عندما تصدح حناجر المرتّلين بـ«يا نورًا بهيًّا»، كأنّ النور يخرج من الأيقونة ليغمر وهجهها كلّ الأرض. وكم يبهجهم، عند الفجر، بعد انتهاء سهرانيّة في عيد قدّيس، بعد الصراع الجميل مع النعاس، أن يخرجوا من الكنيسة ليروا نور الصباح في إطلالاته الأولى. مشاهدات ما كانت لتحفر في قلوبهم ملامح جميلة لو لم يجتمع الأخوة في الصلاة بنعمة الروح ليكتسب كلّ شيء معنى جديد.

تدرك الجماعة أنّ اجتماعها للصلاة ركيزة لحياتها كرعيّة، تتأسّس في سرّ الشكر، تجسّد وحدتها في عملها المستمرّ في خدمة المحتاج، في قراءة للكتاب المقدّس وتعاليم الآباء، وفي اختبار الحبّ باحتضان المؤمنين بعضهم لبعض وفي بشارة وتفاعل مع المحيط.

يقينهم أنّ صلاة الجماعة هي تحقيق لمقولة المتروبوليت أنطوني بلوم «يجب أن نكون شاهدين للحضور الإلهيّ في العالم، للفائق القدرة، لحقيقة أنّ الأبديّة أصبحت جوهريّة وقائمة في وسطنا»، من كتابه «الله والإنسان». كيف نحيا ونعبّر عن هذا الحضور الإلهيّ إذا لم نلتق بجماعة المؤمنين في الكنيسة؟ كيف لا نسعى مع النسوة حاملات الطيب، فجر اليوم الثامن لنفرح معهنّ بالسيّد غالب الموت؟

صلاة الجماعة