...

سرور أبديّ

 

ماذا يجب أن يعني لنا عيدُ ميلاد الربّ؟ للإجابة عن هذا السؤال، سنستند إلى أُنشودة تلوناها، قَبْلَ أيّام من وقوع العيد، في صلاة غروب الثاني والعشرين من شهر كانون الأوّل. وهذه: “إنّ الشمس، الذي لا يغيب، يأتي بازغًا من الأحشاء البتوليّة، ليُنير البسيطة بأسرها. فلنُبادر، إذًا، لاستقباله بأعين نقيّة وأعمال مبرورة. ولنستعـدّ، الآن، بالـروح، لنتقبّلـه آتيـًا إلى خاصّته، بولادة غريبة، كما قد سُرَّ هو. حتّى إنّه، بولادته في بيت لحم، يُعيدنا، أيضًا، إلى سُكنى عَدْن التي قد تغرّبنا عنها، بما أنّه محبّ للبشر”.

بادئ بدء، يجب أن يلفتنا، في صلوات عيد الميلاد جملةً، ذكْر ألفاظ وعبارات مثل: “الشمس”، “النور”، “نور المعرفة الإلهيّة”، “وُلِدَ من الآب قَبْلَ كوكب الصبح”… وهذا، تاريخيًّا، يتعلّق بكون العيد قد انتصر على عيد وثنيّ، هو عيد “الإله ميترا”، أو “الشمس التي لا تُقهر”، الذي كان قد أخذ ينتشر ضمن نطاق الإمبراطوريّة الرومانيّة. فهذا العيد الوثنيّ، الذي انطلق من الشرق (من إيران تحديدًا)، كان له طقسه المنحرف. والكنيسة، في توقيعها، في يوم “عيد الشمس”، عيدَ ميلاد الربّ (الذي كان ثابتًا تعييدها له، في مطلع القرن الرابع، يوم عيد الظهور الإلهيّ، أي في السادس من كانون الثاني)، أرادت أن تحمي أعضاءها من شرّ الوثنيّة، وترفعهم إلى كون الربّ، الذي هو “شمس العدل”، هو، وحده، نور سبيلنا في هذا العالم. وهذا يُحدّد لنا أنّ عيد الميلاد إنّما يفترض اعترافًا بأنّ الربّ هو “نور العالم”، نور “لا يغيب”، نور ينشر الحياة والدفء والرضا في “البسيطة بأسرها” التي يحيا معظم أهلها في ظلام البرد والبُعد.

إلى هذا، يجب أن نلاحظ أنّ الكنيسة تريدنا، في هذه الأُنشودة، أن نلتزم أنّ الربّ يأتي “من الأحشاء البتوليّة”. وهذا يعني أمرين متلازمين. أوّلهما أنّ التعييد لميلاد الربّ يجب أن يرافقه، لزامًا، إقرار بأنّه أتى من “فتاة الله” التي لم تقبل غير زرعه زرعًا. وثانيهما أنّ هذه الفتاة، التي ساهمت في هذا الحدث الخلاصيّ بتخصيص نفسها للربّ، هي مثال ما تنتظره الكنيسة من جميع الذين يجمعهم عيد ميلاد ابنها. ليس بمعنى أنّها تنتظر أن نعترف بطُهر مريم فحسب، فهذا، إن أردنا الحفاظ على سلام قلوبنا، واجب ملزم دائمًا، بل أن نرى أنفسنا معنيّين بها أيضًا، أي أن نرى أنّ ما فعلته إنّما أردناها نحن أن تفعله أيضًا. وهذا عينه ما تقوله خدمة غروب العيد. نقرأ: “ماذا نُقدّم لك أيّها المسيح، لأنّك ظهرتَ على الأرض كإنسان لأجلنا؟ فكلّ فرد من المخلوفات، التي أَبدعتَها، يُقدّم لك شكرًا: فالملائكةُ التسبيحَ، والسماواتُ الكوكبَ، والمجوسُ الهدايا، والرعاةُ التعجّبَ، والأرضُ المغارةَ، والقفرُ المذودَ، وأمّا نحن، فأُمّا بتولاً”. فمريم، أُمّنا البتول، التي قدّمت ذاتها للربّ، تجعلها ليتورجيا العيد تقدمة البشريّة المؤمنة التي شأنها أن تعتقد، في عيد ميلاد الربّ (وفي غير وقت)، أنّها مدعوّة إلى أن تلد المسيح في هذا الوجود.

هذا يُعِدّ لـ: “فلنبادر، إذًا، لاستقباله”. أن نبادر لاستقباله، يعني أن نعتقد أنّه يأتي إلينا خصّيصًا. فالمسيح الآتي، وفق ما تكشف هذه الأُنشودة، لا يأتي، ليعبُر بنا عبورًا، بل يأتي إلينا، أو يأتي ليُقيم فينا، أي فينا جميعًا وفي كلٍّ منّا في آنٍ. وتُحدّد لنا الأنشودة نوعيّة هذا الاستقبال بعبارتَيْن: “بأعين نقيّة” و”أعمال مبرورة”. وهاتان العبارتان ترسُمان لنا أنّ استقبالنا الربّ الآتي يفترض جهدًا يُرضيه. فنحن كثيرًا ما نعتمد على أساليبنا في استقبال الربّ (نُزيّن بيوتنا وشُرفاتنا وطُرقاتنا، نقدّم هدايا بعضنا لبعض…)، وتريدنا الكنيسة ألاّ يُنسينا ما نفعله أن نستقبله وفق أسلوبه. وأسلوبه، كما هو ظاهر، يتمّ بثبيت النظر إليه، وليس أيّ نظر، بل النظر النقيّ الذي يدلّ على أنّنا نحبّ كثيرًا حضوره بيننا وفينا. ويتمّ، تاليًا، بالتزام أعمال البرّ. فإن كنّا نؤمن بأنّ المسيح قد أتى إلينا، فهاتان العبارتان تُلزماننا أن نأتي إلى الآخرين، ولا سيّما الذين يحتاجون إلى معونتنا. فعيد الميلاد فرصة باقية، لنذكُر كلّ فقير مُهمَل في الأرض. نذكره، ونبقى على ذكره أبدًا. هذا هو عينه استقبال الروح الذي يُبدينا من خاصّته. فالولادة غريبة، والاستعداد لها يجب أن يتمّ بغرابة أيضًا. هذا العالم، الذي نحيا فيه، لا يُناسبنا أن نشبهه في أعماله، ولا سيّما تلك التي تُبدينا بشرًا عاديّين لا يميّزنا عن سوانا أيّ شيء. فالربّ ينتظر أن تكون لنا ملكات جديدة تكشف ما يأبى أن يلتزمه الكثيرون في العالم. كلّ مَنْ جعله ميلاد الربّ، الذي أتى إلينا “كما سُرّ هو”، يقيم في استغراب شديد، يجب أن يشكّل استعداده له استغرابًا في الأرض. استغرابًا أو ربّما صدمةً، ما من فرق!

أمّا خاتمة الأُنشودة، أي “حتّى إنّه، بولادته في بيت لحم، يُعيدنا، أيضًا، إلى سُكنى عَدْن التي قد تغرّبنا عنها”، فتكشف هدفًا آخر من أهداف هذه الولادة الغريبة، أو الهدف الحقيقيّ منها. فولادة الربّ خلاصيّة. إنّه يأتي، ليُعيدنا إلى الشركة مع الله، الشركة التي خسرناها بفعل خطايانا. وهذه الشركة تكشف أنّ العيد لا تنتهي معانيه في يوم العيد. العيد، الذي يجمعنا حول هذا “الطفل الجديد”، مداه أن نقتنع بأنّ حياتنا لا قيمة لها إن لم نرتضِ أن نسكن إلى الله أبدًا. والعبارة الأخيرة: “بما أنّه محبّ للبشر” ليست عبارةً مستهلكة، أي نجدها في مواقع أخرى. فهذه العبارة نكهتُها، هنا، أنّها تُبيّن، بفصاحة ظاهرة، أنّ الربّ يأتي إلينا، لأنّه يحبّنا جميعًا. فحدث الميلاد هو، في الأخير، حدث يحرّكه أنّ الربّ يُحبّنا جميعًا.

هذه المعاني تدفعنا الكنيسة إلى أن نرتضيها بنقاء وبرّ، ليكون عيدُنا سرورًا أبديًّا.

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سرور أبديّ