...

سحابة من الشهود

تُلخّص قراءات العيد سبب احتفالنا بعيد جامع لجميع القدّيسين، لأنّ «سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا» (عبرانيّين ١٢: ١). نحن محاطون بهم، وهم جزء من خبرتنا في العبادة. هذه الإشارة إلى «السحابة العظيمة من الشهود»، تقدّم، للمديح المطوّل في الفصل ١٢ من الرسالة إلى العبرانيّين، الذي يتحدّث عن القدّيسين الواصلين «إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحيّ»، لكونهم «أرواح أبرار مكمّلين»، من أجل الشركة مع «ربوات هم محفل ملائكة» (١٢: ٢٢، ٢٣). هذا الاستعارة، ترمز، إلى ما يعنيه أن «يصلّي» المسيحيّ. لا ينفرد المؤمن حقًّا في الصلاة وجهًا بوجه مع الله، صلاة كهذه لا تمتّ بصلة إلى الإيمان المسيحيّ.

أوّلًا وقبل كلّ شيء، هناك «تعدّد» في الله الواحد نفسه، الآب والابن والروح القدس. في إيماننا بالثالوث القدّوس، كلمّا وقفنا في حضرة الله، نفعل ذلك بقوّة الروح القدس، وباسم يسوع، ومحاطين بسحابة كبيرة من الشهود. هذا هو جوهر الصلاة. الصلاة حدث جماعيّ. بغضّ النظر عن مدى عمق صلاتنا «الخاصّة»، نحن نصلّي دائمًا بصحبة القدّيسين. هذا واضح من ترتيلنا في القدّاس الإلهيّ «أيّها الممثّلون الشيروبيم سرّيًّا». لطالما استدعت الكنيسة الجامعة القدّيسين. يبدو من السذاجة أن نكون مُحاطين بجميع هؤلاء القدّيسين ولا نقول لهم كلمة أبدًا، كأنّ لا شركة لنا معهم! لو لم تكن لدينا شركة معهم، لبدا الأمر كما لو أنّ الموت قد ساد. إكرام القدّيسين، والصلاة معهم، وطلب شفاعاتهم، هو أحد عناصر الإيمان المسيحيّ بأنّ المسيح قام وأقامنا معه، «الإيمان المُسلَّم مرَّةً للقدِّيسين» (يهوذا ١: ٣).

في العهد الجديد، لا تشير كلمة «قدّيسين» بالعادة إلى مجرّد «أبرار مكمَّلين»، بل تشير بالغالب إلى «شعب الله». نجد كلمة «قدّيسين» مستخدمة للمرّة الأولى في الكنيسة المسيحيّة، كإشارة خاصّة إلى كنيسة أورشليم «جماعة القدّيسين». يأتي هذا الاستخدام من إسرائيل في العهد القديم. تؤمن الكنيسة بأنّ المسيحيّين هم «شعب مقدّس» لأنّهم وَرَثة الموعد «لأنّكم شعب مقدّس» (تثنية ٧: ٦).

ما معنى أنّ المسيحيّين شعب مقدّس؟ بالتأكيد، ليس إشارة إلى سلوك المسيحيّين، فالأنبياء لن يوافقونا الرأي! بل هو إشارة إلى شيء أعمق بكثير، وهو أنّ الله وهب هذا الشعب «أمورًا» مقدّسة: «القُدُسات للقدّيسين». قداستهم التي تلقّوها نعمة، تُلزم المسيحيّين العيش في طريق مقدّس، وبالحفاظ على الأصوام، وبالاحتفال بالأعياد… آمن المسيحيّون الأوائل أنفسهم، ونؤمن اليوم، بأنّنا وَرَثة تلك القداسة الرسوليّة «المنقولة».

تتطلّب القداسة من كلّ منّا واجب السعي إلى القداسة. القداسة ليست «اختياريّة». تؤكّد الرسالة إلى العبرانيّين أنّه بدون قداسة لن يرى الربَّ أحدٌ. لا يُعلن الله أنّنا مقدّسون، أو أبرار، أو صالحون فحسب، بل يخترقنا بروحه القدّوس ويعمل في نفوسنا. القداسة هي عمل من أعمال الله، ليست فريضة قانونيّة خارجيّة، بل قداسة داخليّة. استخدم آباء الكنيسة استعارة للشرح، صورة الحديد والنار، بحيث لا تستنفد الحرارة مادّة الحديد بالكامل وتحوّله الى نار. هكذا يجلونا الله بروحه القدّوس. هو يجعلنا «متوهّجين» بالقداسة بهذه الطريقة. لهذا السبب خطيئتنا العظمى، هي أن نُحزن الروح، «لا تُحزنوا روح الله»، أي لا تطفئوا النور الذي يضيء الجوّ، لا تخمدوا النار التي تتوهّج في الداخل.

يؤكّد الله، في نبوءة إشعياء (غُرُوب العيد)، ويكرّر مرارًا «أنا وحدي القدّوس». الله وحده قدّوس. هذا نردّده في المجدلة الكبرى، «لأنّك أنت وحدك قدّوس، أنت وحدك الربّ يسوع المسيح»، هذا موجّه إلى المسيح ربّنا. هو وحده قدّوس، هو الوحيد الذي يستطيع أن يقدّسنا. نصبح قدّيسين بسبب شركتنا مع المسيح الربّ. في المسيح الربّ تحقيق كلّ الوعود التي قُطعت لإسرائيل. ينقل المسيح نعمة الآب بالروح القدس عبر جسده، جسد المسيح المادّيّ، إلينا، وهذا مظهر مادّيّ للقداسة.

كيف نصير قدّيسين؟ بقبول المسيح في ذواتنا، بالشركة معه. تتغلغل قداسته في خلايا أجسادنا وثناياها، فتجعلنا قدّيسين. لا قداسة لنا بمعزل عن المسيح. أيّ جهد نُسكيّ نستخدمه في اتّجاه القداسة، وهذا واجب بالطبع، هو ببساطة، بقدر ما نقوى ونستطيع، إزالة العوائق التي تعترض نعمة الله. الله وحده قادر على أن يجعلنا قدّيسين.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

.

 

سحابة من الشهود