...

ذبيحة التسبيح

ذبيحة التسبيح

ذبيحة التسبيح

 

 

في القدّاس الإلهي، بعد أن يتلو الكاهن كلمات العشاء السرّي، والتي بها أسّس ربنا المسيحُ سرّ الشكر، يرفع الخبز والخمر المُقَدَّمَين ويهتف: “التي لك مما لك نقدّمها لك عن كل شيء ومن جهة كل شيء”. وللفَور بعد هذا الإعلان يتلو الكاهن دعاء استدعاء الروح القُدُس على القرابين، لتتمّ بذلك استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه الإلهيّين. جماعة المؤمنين بفم الكاهن تقول “التي لك مما لك” إذ هي تقدّم لله ما هو له بالأصل، فتقديم القرابين كما سائر أشكال العبادة لا يجوز إلا لله. أما الخبز والخمر ففيهما شكل من أشكال الاشتراك الحيوي بين عطايا الله وجهد الإنسان: القمح والعنب هما من نتاج الأرض وترتيب الفصول، إي من ثمار الطبيعة كما وهبها الله، وبعمل الإنسان يصيران خبزاً وخمراً. العالم بكل ما فيه هبة من الله للإنسان مملوءة بالخيرات والبركات، وقد ميز الله الإنسان بكل ما يلزمه من مواهب لا ليحسن العيش في العالم وحسب بل وليقدسه أيضاً. على مذبح القداس الإلهي نحن نقدم خبزاً نقياً وخمراً صافية والله يصيرها جسد ودم ابنه الوحيد، الإلهيين والمُحيين. نحن نقدم إلى الله، كتعبير عن اعترافنا بفضله وشكرنا لمحبته، مِن ما هو عطاياه أصلاً، إذ إننا لا نملك ما يمكننا أن نقدمه إزاء عظمة محبة الله سوى الشكر والعرفان ذبيحة. بمعنى آخر، هبة محبة الله للإنسان تعود إلى الله، من الإنسان، ذبيحة تسبيح.

ذبيحة الشكر والتسبيح هذه لا تقتصر على تقدمة الخبز والخمر في القداس الإلهي. الإنسان، متى اعتمد بالمسيح، يصبح كما يقول أبونا البار مكسيموس المعترف “كاهناً كونياً” غايته أن يُقدس العالم المادي الذي فيه يعيش ويرفعه إلى الله قرباناً طاهراً. قد يبدو هذا الكلام، للبعض، لاهوتاً مُعقداً أو تنظيراً غير واقعي. أما في الحقيقة فهو العكس تماماً. كل من اعتمد بالمسيح صار بحكم معموديته لابساً المسيح أي أنه صار قادراً أن يشكل امتداداً للمسيح أينما كان. أياً كانت مهنته أو وظيفته أو دعوته أو نمط حياته يكفيه أن “يكفر بنفسه” ويتبع المسيح، أي أن يسلك لا بمقتضى مشيئته الذاتية بل بمقتضى إنجيل المسيح ليصبح كل ما يعمله أو يحياه مقدَساً، وبالتالي “ذبيحة تسبيح” وشكر لله. لا شيء في هذه الدنيا ليس قابلاً للتقديس فكل ما خلقه الله حسنٌ.

الإنجيل المتلو في الكنيسة هذا الأحد يبدأ بقول السيد له المجد “من أراد أن يتبعني فليكفُر بنفسه ويحمل صليبه…”. الدعوة هنا ليست انتقائية، بل تأكيداً على أهمية القرار الحر الخيار الشخصي “الكياني” في اتِّباع المسيح. في إنجيل مرقس، الذي منه يأتي هذا النص، يخاطب الرب يسوع “الجمع مع التلاميذ”، وهذا الجمع المتحلّق حول التلاميذ هو المؤمنين، أي كل إنسان اعتمد بالمسيح، على امتداد التاريخ. الـ”من أراد أن يتبعني” هي إذاً أمدّ من الزمن، أبعد من الذين سمعوها بآذان الجسد في ذاك اليوم، ولها شرطها: “فليكفُر بنفسه…”. أما إنكار النفس هذا فيعني أن لا يبقى الإنسان، متى أراد أن يتبع السيد، أسير غريزته البشرية التي تؤلّه الـ”أنا”. أن لا يبقى منتمياً إلى ذاته، وإلى الدنيا التي يرى فيها، لمحدودية بصيرته، تحقيق ذاته. أن يلقي عن “نفسه” ذاك الخضوع لنواميس دنياه، والمقنّع زيفاً بحاجة التكيّف من أجل البقاء. بمعنى آخر يقول السيد المبارك في هذا اليوم لسامعه إن أردت أن تتبعني (أي أن تتمثل بي وتسلك بحسب وصاياي) عليك في البدء أن ترفع إلي مشيئتك ذبيحة، وأنا أقدسها. إما أنا وناموسي وبالتالي الحياة التي أعطيك، وإما نفسك.

 

في ذبيحة القداس الإلهي، وفي “ذبيحة التسبيح” حيثما عشناها في حياتنا، نحن لا نقدم لله مجرد تقدمات مادية بل المسيح نفسه. “التي لك مما لك نقدمها لك”. فكما أن القرابين، الخبز والخمر، الموضوعة على مائدة القداس الإلهي تحمل في الوقت عينه شكرنا لله على محبته وعطاياه في الخليقة الأولى وعلى خلاصه المُعطى لنا بالمسيح، كذلك سلوكنا بمقتضى الإنجيل يجعل كل ما نعمله ونحياه “ذبائح روحية مَرضية عند الله إكراماً ليسوع المسيح” (1 بطرس 2: 5).

 

الأحد 15 آذار2015

 

 

 

 

 

 

 

ذبيحة التسبيح