...

الآن ابتدأتُ!

كلُّ إنسانٍ، وُلِد في المعموديّة، يمكنه أن يقول بثقة: «الآن ابتدأتُ»!

هذه بداءة مكلّلة بنِعَمٍ جمّة. من هذه النِعَم أنّنا، في معموديّتنا، نُنسب إلى قدّيس أرثوذكسيّ نستشفعه (مريم، بطرس، بولس، يوحنّا، بربارة…). أعرف إخوةً يناديهم بعض أصدقائهم بالاسم الذي اتّخذوه في معموديّتهم. هذا هُمُ. إنّهم يغدون في وحدة سرّيّة مع القدّيس الذي يحملون اسمه.

ما الذي تفترضه هذه الوحدة؟ هذا ما سنحاول التأمّل فيه في ما يلي.

مَن شفيعي؟ سؤال سمعته، مرّاتٍ، من أشخاص لجأوا إلى سجلّ المعموديّة، في الكنيسة، يطلبون جوابًا عنه. شيء محزن فعلاً. كيف لا يعرف إنسانٌ شفيعَهُ؟! ربّما لم يُعلمه أحدٌ به. أو نسيه. أو أعطاه ذووه اسم قدّيس شكليًّا، أي من دون أن يُعلّموه أن يقبله في عمقه. أجوبة كلّها ممكنة. لا أذكر هذا دليلاً على أنّ الناس، في كنيستنا وسواها، لا يهتمّون بأمر القدّيسين. فالمعروف أنّهم يهتمّون، بل معظمهم يزيدون في اهتمامهم. ولكنّ هذا، في لبنان (وفي أيّ بلد آخر في العالم)، إمّا يتعلّق بقدّيسين من بلدنا عينه أو بقدّيسين ورثنا أن نكرّمهم. لكلّ مجتمع قدّيسون معيّنون يُشتهر بتكريمهم. «القدّيس الضائع»، إذا جاز التعبير، هو القدّيس الشخصيّ (اللَّهمّ إلاّ إن كان اسمنا المدنيّ هو اسم القدّيس الذي احتفظنا به يوم معموديّتنا). وهذه الوحدةُ بالقدّيس الشخصيّ (الذي قد يكون من القدّيسين المشهورين) تفترض أن نصالحه الآن. كلّ مَن يقرأ هذه السطور، ينبغي له، إن كان لا يعرف مَن هو شفيعه، أن يسأل عنه فورًا. هذا، أي معرفة كلٍّ منّا مَن هو القدّيس الذي استشفعه في معموديّته، حدث لا يعطي قيمته لأحد.

إن كنّا نعلم أنّنا نعيّد في كنيستنا الأرثوذكسيّة لقدّيسين معيّنين في كلّ يوم، فهذا يجب أن يعني لنا أنّ للقدّيس الذي نستشفعه عيدًا في تقويمنا، أي سيرةً موضوعةً وخدمةً ليتورجيّةً (أي صلواتٍ خاصّةً به). إذًا، الشيء الثاني، الذي يفيد الوحدة بشفيعنا، أن نحصل على سيرته وعلى خدمته الليتورجيّة. وإن كان من المعلّمين، أن نسعى إلى الحصول على صفحاتٍ ألَّفَها أيضًا. هذا يستدعي ثلاثة أشياء. أوّلاً، أن نرتبط بعلاقة صلاة يوميّة به، أي أن نذكره صباح مساء وأن نردّد صلاته الخاصّة التي نتلوها في يوم عيده (طروباريّته). ثانيًا، أن نقرأ إرثه الفكريّ (إن كان من الآباء المعلّمين)، ونسعى إلى طاعته. ثالثًا، أن نشارك في الخدمة الليتورجيّة التي تُقام له في يوم عيده. وإن كان من غير القدّيسين «المشهورين» في كنيستنا، أن نلجأ إلى كاهن رعيّتنا، ونطلب أن يدخله، إن أمكن، في تريب الأيّام التي تقام فيها الخدمة في كنيستنا.

أحبّ أن أخبر أنّ لي صديقًا، (صار اليوم في ديار الحقّ)، كان، في يوم عيد شفيعه، يأخذ فرصةً من عمله، ليشارك في الخدمة الإلهيّة التي تقام له في كنيسة رعيّته، ويفرح بذكره. هذا أقترح أن يستلهمه الإخوة جميعًا. حقّنا أن نفرح بالقدّيسين الذين يفرحون بصلاحنا، ويدعون لنا أمام عرش الله. لا أعرف مَن علّم صديقي أنّ يوم عيد شفيعنا، إن وقع خارج الأصوام الكبرى، يكون لمستشفعيه يوم فسحة من الصوم. هذا كان يزيد على فرحه فرحًا بأنّ الكنيسة تكرّمه بهذا العيد. وهذا صحيح لنا جميعًا.

هذا كلّه يجب أن يعني لنا أنّه كما لكلّ منّا أشخاص يخصّونه هنا في هذه الأرض، لكلّ منّا، أيضًا، شخص أو أشخاص يخصّونه في السماء. هذا معرفته واجبة في سياق مسرى الحياة الجديدة.

أمّا القدّيسون، فنلتقي بهم في المسيح إلحيّ. إنّه السماء الذي يجمعنا جميعنا فيه. لا أريد أن أفتح سطوري على المجادلات. لكنّ الذين يرفضون شفاعة القدّيسين لا يفهمون حقًّا معنى أنّ المسيح قام من بين

الأموات. هذه عطيّة الغلبة أن نذوق هنا تجاوزًا لحدود الأرض. هم، أي الذي يرفضون القدّيسين، يقولون إنّهم يقيمون علاقتهم بالله مباشرة. نحن، فيما نقيم هذه العلاقة، نجد القدّيسين يحوطون بالربّ. نحن معه. نحن معهم. هذه المعيّة هي معنى اعتقادنا بشفاعة القدّيسين. نحن لا نقول إنّ القدّيسين هم مفتاحُ قربانا من الله، فالله قريب من جميع خلقه، بل نقول إنّنا معًا ثمّرة المحبّة التي بزغت من القبر في اليوم الثالث. أجل، هذا القدّيس، الذي أُحبّه يوميًّا، إعلاني أنّ المسيح وهبني أن أقتحم السماء «الآن وهنا».

مَن يؤمن بأنّه في يوم معموديّته قد ابتدأ، يلتصق بالنعم التي تبقيه في بداءة مستمرّة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآن ابتدأتُ!