...

وبعضٌ سقط في الأرض الصالحة فلما نبتَ أثمر مئة ضعفٍ

 

 

مثل الزارع من أهم النصوص الإنجيليّة المحبّبة إلى قلوبنا، وأكثرها وضوحاً لدينا. سأل التلاميذ الربّ يسوع عن المثل وشرحه لهم. الزارع هو الله، والزرع هو الكلمة، والأرض بأنواعها هي أصناف البشر.

لا يتكلّم المسيح عن صعوبة الإثمار، بل عن شروطه، عن الطريق والصخر والأرض الملآنة بالشوك وعن موت الثمار فيها. كلّ أرض – كلّ أنواع البشر- هي صالحة في حال لم نحوّلها إلى طريق أو نقسّيها كالصخر أو نترك الأشواك تملؤها. فطبيعة الطريق هي عينها التي للأرض الصالحة وللصخر لكن اختلفت الممارسة فيها.

حين يعطي الربّ يسوع هذا المثل يُعبِّر عن تصوّره لمواقفنا البشريّة تجاه زرعه للكلمة، وعن الأسباب التي تقتل كلّ ما يزرعه فينا فنبقى دون ثمر.

ماذا عليّ أن أعمل إذً لأحافظ على نفسي أرضاً صالحة وليس كالطريق أو الصخر أو الأرض بالأشواك؟

أولاً يجب ألا نكون كالطريق التي يدوسها الجميع. أي ألا نكون معبراً لكلّ قدم دون أي رادع أو ضابط، وأرضاً مباحة لكلّ مارٍّ، وطريقاً لكلّ إيديولوجيا غريبة ! معبراً لكلّ التيارات الدارجة. راقبوا كيف يتابع المسيحيّون الإعلام! إنّهم يتشرّبون كلّ الأفكار دون أي فحص أو تقييم، بدل أن يحكموا عليها على ضوء الإنجيل! مَنْ منّا يمتحن ما يُقدَّم له من برامج تربوية أو مناهج تدريسية؟ مَنْ يفحص على ضوء الإنجيل كلّ فكر حزبي أو سياسي أو ثقافي؟ لسنا سلعة رخيصة مباعة لكلّ عابر سبيل ولأيّة إيديولوجية يُشيّع لها وكأننا لا نملك الأرض الأساسية للإيمان!

لا ينغلق المسيحيّ فيقرأ إيمانه فقط ويقف هناك، حاشى! لكنّه يقارن تحت نور الكلمة الإلهيّة كلّ الأفكار، ويطالع بضوء هذه الكلمة كلّ الإيديولوجيات موجهاً ومقوماً ومصلحاً.

هذا الفحص يسميه الأدب المسيحيّ بــ “السهر” أو الـ “يقظة”، أي أنّه يسهر على الكلمة المزروعة في قلبه ويدقق على ضوئها كلّ ما يُقدَّم له أو يتعرّض إليه. الكلمة الإلهيّة رُمِيَت في أرضنا، والأرض للكلمة، ولهذه الكلمة فقط. هذه الكلمة ليست لقمة سائغة لأيٍّ كان يحلو له أن يمّر بنا أو ينقضّ علينا. علينا إذاً أن نتمسك بالزرع ونمنعها عن الطيور والعابرين. فالحبّ المرمي في أرضنا أثمن من أقدام المارّين ومناقير كلّ طائر أو غريب، علينا أن نبقى عليه “ساهرين”.

ثانياً، ألا نكون كالصخر، أي ألا نتعامل مع زرع الكلمة بسطحية أو نأخذ الدين بدون جوهره أو نمارس العبادة كالعادة، أو نحفظ من المسيحيّة القشور. فنرى في الإنجيل قصصاً ووصايا وتقف الصلاة عند الواجب، إن لم تنقلب إلى حضيض الفريسيّة، أو نمارس الطقوس والليتورجيا دون عمق أو حياة، أو نحيا في الكنيسة سطحيّين…

بالواقع إنّ أيّة فضيلة مسيحيّة لا نبلغ منها إلى العمق، الذي هو المسيح، تبقى ممارسة سطحيّة ينبت عليها الثمر ولكن يموت بعد حين.

العديد من المسيحيّين يحبّون المسيحيّة ولا يحركهم أقلّ شعور أو خشوع تجاه المسيح. المسيحيّة ليست “ديناً” فهي ليست شريعةً ولا كتاباً، إنّها الحياة التي الربّ يسوع هو مركزها. “لستُ أنا أحيا بعد بل المسيح يحيا فيَّ”. من وراء كلّ فضيلة مسيحيّة، ومن كلّ عبادة في كلّ لحظة، علينا أن نلتقي بالمسيح. لا أقرأ في الإنجيل قصّة وإنّما أقابل المسيح، بالإحسان لا أعطي صدقة ولكنّي أشارك المسيح حاجته، في الصلاة أيضاً لا أتلو أو أرنم إنّما أخاطب المسيح.

العمق في المسيحيّة هو “الصلاة” أي اللقاء بالربّ يسوع. لذلك الحياة المسيحيّة هي “حياة الصلاة”، من حيث أن الصلاة ليست تلاوات في كنائس أو في زوايا البيوت… وإنّما هي “فكر المسيح” فيَّ دائماً عند كلّ حدث ومن كلّ نصّ وبعد كلّ تصرّف. المسيحيّ والمسيح في لقاء حيّ دائم في كلّ مكان وكلّ زمان. إن لم نصل إلى هذا العمق فنحن سطحيّون حتّى في صلاتنا.

العمق والجدية يمدّان للزرع جذوراً لا تحرقها شمس ظهيرة ولا تقتلعها ريح مصلحة، وإنّما ينمو الزرع ويأتي بثمرٍ كثير. إذاً معيار العمق، هو أن يتحول كلّ شيء من السطحية إلى “الصلاة”.

ثاثاً، يجب ألا نسمح بخلط الزرع بالأشواك، أي ألا ندمج الدنيا بالدين- مع التحفظ للكلمات- وألا نساوي بالكرامة بين الربّ والدنيا. الأرض الثالثة الملآنة بالأشواك هي حال المسيحيّين الذين يحبّون الكلمة والكنيسة كثيراً، ولكن يحبّون الدنيويّات  أيضاً كثيراً.

لا ينبت الزرع في الأشواك ومع لذّات لا تليق بالحفاظ على الكلمة. لا يمكننا أن نعبد ربّين.

أيديولوجية الدهر المعاصر هي القناعة بأنّه يمكننا أن نماشي بين حب الله والشراهة مثلاً، بين حب الكلمة والجشع، بين حبّ الفقير وحبّ الذات، وأن نساير بين قبول سموّ الرسالة ودناءة المصلحة. فكر العصر يخاطبنا بأنّه ممكن أن نكون أرضاً لأشواك إلى جانب الكلمة. فلسفة الدهر خدعة شيطانيّة تقول للربّ: “ممكن لنا أن نعبد ربَّين”، وتعرف أن تتعامل مع الله بأن تعطي له حقه وللأرباب الأخرى حقوقاً، وربّنا نارٌ آكلة لا تتواجد مع أرباب الدهر.

المسألة مسألة قلب سارق بما يختصّ بشهوته الداخلية. هل القلب لله؟ هل رغباته سامية؟ أم أننا أرض للأشواك؟ هنا دور الأصوام في حياة المسيحيّ. الصوم هو توجيه الرغبات. الصوم إصلاح “الذوق” البشريّ وتقويم “العطش” الإنسانيّ. فلا يمكن للقلب أن ينشطر إلى نصفَين والربّ يقول: “يا بنيَّ أعطني كلّ القلب”. الشرط الثالث إذاً هو “الصوم“.

ترتل الكنيسة للأبرار، مستوحية ذلك من هذا المثل، “أنَّك بالأسهار، والأصوام، والصلوات، تقبلتَ المواهب السماويّة (أي الزرع)، فأثمرتَ بأتعابك إلى مئة ضعفٍ”. هذه الفنون الثلاثة هي الفلاحة الحقيقيّة التي تجعل أرضنا صالحة عوض الطريق، وتفتّت صخر القساوة، وتقتلع الأشواك من الحياة المسيحيّة. ما أجمل العبارة التي يختم به النصّ الإنجيليّ: “من له أذنان للسمع فليسمع”، آمين.

المطران بولس (يازجي)

عن كتاب “سفر الكلمة”، الجزء الثاني.

وبعضٌ سقط في الأرض الصالحة فلما نبتَ أثمر مئة ضعفٍ