...

من الصليب إلى أعماق الله

 

في نهاية القداس، يطوف الكاهن اليوم بالصليب الكريم موضوعًا على زهور، ويعطي لكل مؤمن زهرة إذا هو عانق الصليب. ويكون الصليب محاطا بثلاث شموع كأن الثالوث الأقدس ينحني على كل مؤمن يلتصق بالصليب.

 بالطبع نحن نتبع المعاني ونفتش عما هو عميق، عما هو وراء هذه القبلة المقدسة. والعميق هو ما قاله السيد في إنجيل اليوم: “من أراد ان يتبعني فليكفُر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. وكأنه يقول أن ذلك شرط حتى نعتبر أنفسنا تلاميذ، أن نأخذ الحياة كما هي، كما تجيئنا، ونحن مصلوبون عليها. الصليب مرميّ في حياتنا، أو بكلمة أُخرى حياتنا ملقاة على الصليب. كل منا يعترضه هذا أو ذاك من الناس وتعترضه خطيئته ويتمزّق في كيانه. الصليب لم يخترعه يسوع، وجده في ذاته، في لحمه ودمه، في لحم الانسانية المتعبة. يسوع لم يحبّ الصليب ولم يطلب الينا أن نفتش عن آلام، فالآلام كريهة وقد أراد السيد ان تتباعد عنه تلك الكأس. مسيحيتنا لا تدعونا إلى العذاب، فالعذاب فينا تنشئه الخطيئة المعشّشة فينا.

إلامَ يدعونا المسيح؟ ماذا تريد الكنيسة منا في منتصف الصيام والمسيرة لا تزال طويلة لأن الحياة كلها صيام، ولأن الجلجلة قائمة في العمر، طوال العمر؟ يسوع يقول لنا: “من أراد ان يكون لي تلميذا فليكفُر بنفسه”. ماذا يعني هذا الكلام بصورة مكثفة؟ يعني أولا أن يتنقّى الانسان من حُب ما يملك ومن حب ما يريد ان يتملّكه. أن يكفر بنفسه يعني أن يكفر بعينيه وأذنيه ويديه ورجليه وحواسه، أن يكفر بهذا الفعل الذي يتمجد فيه، أن يكفر بهويته، أن يكفر بأشيائه وبثقافته وببهائه. فإذا نظر إلى نفسه، يراها لا شيء، يحس انه لا شيء، وان يرى نفسه محارِبا “الأنا” البغيض الذي في نفسه.

ولكن لماذا يجب ان يحارب الانسان ذاته؟ ليس من أجل “القهر” أو “الإماتة”، ليس من أجل الصبر، ليس من أجل الإذعان للقَدَر. انه لا يطلب القهر ولا الإماتة ولا الصبر من أجل ذاته. يحارب الإنسان ذاته كي يتبع المسيح. ولكن إلى أين؟ إلى حيث الصليب موضوع، إلى قلب الله، لأن قلب الله، لأن الله نفسه مذبوح في حبه لنا. من أجل ذلك أقمنا الصليب اليوم بين شموع ثلاثة مضيئة لنعلن أن الصليب في قلب الله، في قلب الثالوث. وإن نحن حملنا الصليب، فنحن سائرون إلى قلب الله، نحن في جوف الله. هناك نقيم. نحن لا نقيم على الصليب. نحن نطفر من الصليب إلى أعماق الله، إلى هذا النور الأبدي الذي نتجلبب به.

كل مؤمن عانق الصليب اليوم. وإذ عانقه، تلقى زهرة. هذا رمز جعلته لنا الكنيسة لتقول لنا عبره أننا اذا كنا في صميم الله نتلقّى زهورًا، يحتضنا الفرح ويلفّنا السلام. نحن منذ الآن قائمون من بين الأموات. الجلجلة ليست آخر المطاف. القيامة تنفجر من الجلجلة. فإذا ما حسبنا أنفسنا مدفونين في هذه الحياة، فنحن لسنا كذلك حقا لأننا، فيما نذوق عذاب الوجود، يرفعنا الله من الخشبة ويحرّرنا من المسامير ويضمّد جراحنا ويضمّنا إلى صدره الكريم ويتلقانا بقبلة كانت الزهور الموزعة علينا رمزا لها، بها نذوق حلاوة المسيح.

جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

عن “رعيّتي”، العدد 11، الأحد 15 آذار 2015

من الصليب إلى أعماق الله