...

كلمة الراعي معالم النور في تكوين أيقونتنا

يأتي النور نتيجة عمليّة احتراق مادّة، سواء أكانت وقودًا أم فتيلًا أم غرضًا قابلًا للاشتعال. وعندما يصرّح يسوع أنّنا «نور العالم» (متّى ٥: ١٤)، فإنّما هذا يخفي في طيّاته إشارة بالضبط إلى عمليّة «احتراق» تجري فينا وتنعكس نورًا على محيّانا، في محيطنا، عبر الأجيال المتعاقبة، في حياتنا الأرضيّة وبعد موتنا، إن كان المسيح هو بِرّنا.

أين يكمن سرّ الاحتراق هذا؟ إنّه يأتي من سعينا لنعيش إيماننا بـمَن أرسله الآب إلينا وتجسّد من أجلنا، ونسير في إثره، ونحمل الصليب الذي أوصانا به، ونبذل ذواتنا في هذا السبيل (متّى ١٦: ٢٤). إنّه الاحتراق الناجم عن التضحية بالذات وبذلها حبًّا بالله وبالقريب عملًا بمشيئته، وعن صلاتنا استدرارًا لنعمة الله ونوره، وعن خدمتنا بروح المسؤوليّة والتفاني، وعن مشاركتنا في آلام الآخرين وأفراحهم، وعن سعينا إلى تقديس حياتنا وأمانتنا في اتّباع المسيح. إن نَسَجْنا حياتنا على هذا المنوال يصبح يسوعُ رداءنا الذي يوشّح حياتنا وتماسَنا مع أترابنا.

عمليّة «الاحتراق» هذه بهدف أن نشعّ نورًا كالنور الذي يقصده يسوع تتّخذ أوجهًا مختلفة بحسب خبرة الكنيسة. إليكم بعض أوجهه:

هناك نوع «احتراق» أوّل مضمونه توبتنا، أي عودتنا إلى الله، التي تختمر فينا موتًا مع يسوع وقيامة معه، نيلًا لنعمة روحه القدّوس، اتّحادًا بجسده ودمه، تمثّلًا له حتّى يصير همُّه همَّنا، وقصدُه قصدَنا، ورسالتُه رسالتَنا، ونعمتُه نعمتَنا، وأبوه أبانا.

وهناك نوع «احتراق» ثانٍ مضمونه أنّنا ننمّي الوزنات التي أعطانا إيّاها (متّى ٢٥: ١٥)، ونجمع معه ولا نفرّق (متّى ١٢: ٣٠)، وألّا نكون سبب عثرة للمؤمنين بيسوع (متّى ١٨: ٦) وأن تكون أسماؤنا مكتوبة في سفر الحياة عوضًا من إنجازاتنا التي نقوم بها باسمه وبنعمته (لوقا ١٠: ٢٠).

وهناك نوع «احتراق» ثالثٍ مضمونه أنّ صلاتنا تبلورت في حياتنا قاعدةً ومنطلقًا لكلّ شيء (فيليبّي ٤: ٦)، وأنّها تسقي جذور شخصيّتنا وكياننا وتحرّك دوافعنا ونيّاتنا وتلهم أفكارنا ومشاعرنا وتغذّي قلبنا بفكر المسيح (١كورنثوس ٢: ١٦).

وهناك نوع «احتراق» رابعٍ مضمونه أنّنا نتقدّم، على مثال يسوع، «في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس» (لوقا ٢: ٥٢)، وأنّ إنساننا الداخليّ إنّما ينمو «إلى الكمال، إلى قياس قامة ملء المسيح» (أفسس ٤: ١٣)، وأنّ أيقونتنا قد اتّضحت معالم وحدتها مع الله وأفرجت عن النور الذي يسكبه الله عليها.

أَلعلَّ كلّ ما سلف من أنواع «احتراق» منيرة يشكّل مجموع الأعمال الحسنة التي أراد يسوع أن تصير منظورة من أترابنا عندما قال: «ليُضِئْ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات» (متّى ٥: ١٦)؟ أَلعلّ أعمالنا الحسنة تتمثّل في تكوين معالم هذه الأيقونة فينا، بإرادة الآب وعمل الابن وفعل الروح القدس؟ لربّما وجود أيقونة كهذه بيننا تمثّل برهانًا حيًّا على طبيعة قصد الله من الإنسان وتحقيقه في حياتنا، عندها سيدرك الناظرون إلينا أعمال الله الحسنة فينا ويمجّدون الآب على قصده منّا وتدبيره من أجلنا. هل يكفينا، في هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر، التأمّل بما شاركنا فيه بولس الرسول من خبرة شخصيّة فنمجّد الله معه بدورنا: «مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنّـما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي» (غلاطية ٢: ٢٠)؟

إذا ما بلغنا في مسارنا هذا الحدّ، بات من الطبيعيّ الحديث عن بُعد أساس يشير إليه يسوع في تعاطينا مع سوانا، سيّما مَن يجمعنا بهم رباط تنشئة أو تربية أو تعليم أو معيّة أو مرافقة أو خدمة أو زمالة أو صداقة أو، بحدّ أدنى، الوجود. فحامل مثل هذا النور يصير مثالًا حيًّا ينير درب أخيه في الإيمان والإنسانيّة على السواء، على الرجاء أن يقوده بهذا النور في طريق الخلاص. هكذا تكتمل أمامنا أيقونة «مَن عمل وعلّم» على الأرض وصار «عظيمًا في ملكوت السماوات» (متّى ٥: ١٩). فالشكر لله على هذه الأيقونات الحيّة في الكنيسة الظافرة والكنيسة المجاهدة بآن! والشكر لهؤلاء جميعًا الذين وضعهم الله على المنارة ليقودونا في طريق الله بنوره! هلّا مجّدنا الآب على أعماله الحسنة هذه؟

+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: تيطس ٣: ٨-١٥

يا ولدي تيطس، صادقة هي الكلمة وإياها أريد ان تقرر حتى يهتم الذين آمنوا بالله في القيام بالأعمال الحسنة، فهذه هي الأعمال الحسنة والنافعة. اما المباحثات الهذيانية والأنساب والخصومات والمماحكات الناموسية فاجتنبها، فإنها غير نافعة وباطلة. ورَجُل البدعة، بعد الإنذار مرة وأخرى، أَعرِضْ عنه، عالِما ان من هو كذلك قد اعتسف وهو في الخطيئة يقضي بنفسه على نفسه. ومتى أَرسلتُ اليك أَرتيماس أو تيخيكوس فبادر أن تأتيَني إلى نيكوبولِس لأني قد عَزمتُ ان أُشتّي هناك. اما زيناس معلّم الناموس وأبلّوس فاجتهد في تشييعهما متأهبَيْن لئلا يُعوزهما شيء. وليتعلّم ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصالحة للحاجات الضرورية حتى لا يكونوا غير مثمرين. يُسلّم عليك جميعُ الذين معي. سلّم على الذين يُحبوننا في الإيمان. النعمة معكم أجمعين، آمين.

 

الإنجيل: متى ٥: ١٤-١٩

قال الرب لتلاميذه: أنتم نور العالم. لا يمكن ان تخفى مدينة واقعة على جبل، ولا يوقَد سراج ويوضع تحـت المكيال لكن على المنارة ليضيء لجميع الذين فـي البيت. هكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات. لا تظنّوا أني أَتيتُ لأَحُلّ الناموس والأنبياء. إني لم آت لأحُلّ لكن لأتمم. الحق أقول لكم انه إلى ان تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يتم الكل. فكل مـن يحل واحدة من هذه الوصايا الصغار ويعلّم الناس هكذا فإنه يُدعى صغيرا في ملكوت السموات. اما الذي يعمل ويعلّم فهذا يُدعى عظيما في ملكوت السموات.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

معالم النور في تكوين أيقونتنا