...

زكّا!!.

 

 

            من زكّا؟!…

   الآتي اليومَ مغادرًا طاولةَ العشارةِ وأصدقاءَ الظُّلمِ، “مُلتمِسًا رؤيةَ يسوعَ من هو، ولم يكنْ يستطيعُ من الجمعِ، لأنّه كان قصيرَ القامةِ”…

   كيف يتحوَّلُ الإنسانُ، أيُّ إنسانٍ، هكذا، من قِدْميّةِ ماضيهِ، مُسائلاً نفسَهُ، كيفَ يعرفُ كلُّ النّاسِ هذا المكانَ، أو ذاكَ الإنسانَ الّذي ملأتْ أخبارُه حيث أسكنُ أنا ولم أرَهُ بعدُ؟!… وسعى ليعرفَ من يسوعُ!…

            من يسوعُ؟!…

   اليومَ الرّوحُ يقودُني ساعيًا إذ يتخلَّلُ عصبَ قلبي، حسَّ إدراكي وذهني ليجيبَ التّسآلَ…

   من هو يسوعُ؟!… ومن هو زكّا؟!…

   يسوعُ هو الإلهُ الإنسانُ، متدرِّجًا في طاعةِ أبيه السّماويِّ ليأتيَ الكونَ الّذي هو أبدعَهُ، ليصيرَ، وهو الخالقُ، والكونُ المخلوقُ، “أشياءَ”، لا يعرفُها النّاسُ المخلوقون، على صورةِ الله ومثالِهِ، ليُدركوا، بسرِّ الألوهةِ الّتي فيهم، من هو الخالقُ!. ولن يعرفوه إلاّ إذا أدركوا عدميّةَ وجودِهم، إذ يُسائلون: لماذا أمرضُ؟!. لماذا لا يُحبُّني الّذين أحبُّهم ويسعون إلى غيري؟!. لماذا يموتُ الأطفالُ؟!. لماذا يُتْرَكُ الطّيبُ، لتعبقَ روائحُ الخطيئةِ والنتنِ، فيفرحَ بها الأطفالُ وذوو البرءِ، ومن ثم ينتظرون مسائلين أنفسَهم: حتّى متى يا الله تُعلِّقُ نفوسَنا، أجسادَنا، حسَّ قلوبِنا ولا تأتينا مسائلَنا؟!.

   اليومَ صارَ حضورُكَ بيننا وعدَ مجيئِكَ الحاضرِ فينا… لكنّنا نحن الّذين خَلقتَنا على صورةِ حبِّكَ نسائِلُكَ… ألا زلتَ تحبُّنا ونحن نرتعُ في كياناتِ خطيئتِنا متعلّلين بعللِ الخطايا لإرضائِكَ وأنت صامتٌ لا تكشفُ لنا سرَّ وجودِكَ فينا، معنا، ولنا؟!…

   ويتردّدُ التّسآلُ، مَن هو زكّا هذا، اليومَ؟!…

   واستفاقتِ الرّؤيةُ، والرّائي، من نعاسِ نومِ الموتِ، وتمتمتِ المعرفةُ: “زكّا هو البشريّةُ”!!… الّذي كان في آدمَ السّقوطِ، وعاشَ حتّى يومِنا هذا ليَضْمُرَ حسُّهُ، وتقصُرَ أوصالُهُ فيطلبَ، بل يلتمسَ أن يرى يسوعَ من هو فلم يكنْ يستطيعُ… وصعدَ بل صعدَتِ الخطيئةُ إلى الشّجرةِ لترى من هو يسوعُ…

   يسوعُ قالَ: “تعالوا إليّ يا أيّها المتعبون والثّقيلو الأحمالِ وأنا أريحُكم”…

   هَلْ سَمِعَ “زكّا، البشريّةُ القصيرةُ القامةِ”، باسمِ يسوعَ من البيوتِ الفقيرةِ الّتي اغتصبَها باحثًا عن مالِ عشارتِهِ ليسرقَ به الّذين صيّرتَهم قوانينُ المجتمعِ السّاقطِ مرضى بالخطيئةِ، ليَحصَلوا على مالٍ يَشفون به غليلَ حوتِ الطّمعِ والدّنسِ والاستعلائيّةِ والإدانةِ الّتي تسيطرُ على الكونِ الّذي أبدعَهُ الله، فأتانا اليومَ بطلّةٍ – يسوعُ المعلّمُ الإلهُ، الطّبيبُ الشّافي، ليُريَنا مَنْ توبةُ “زكّا”!!…

   أهذا هو زكَا… “التوبةُ”؟!…

   نعم، ولا تأتي الخطيئةُ، التّوبةَ، إلاّ بعد شُربِ كأسِ الثّمالةِ منها، ولا تتوقّفُ الخطيئةُ بالتّوبةِ الحقِّ إلاّ بمعرفةِ الرّبِّ يسوعَ، أنّ ذاكَ يعرفُ الإنسانَ أنّه سفَّ، بل تعبَ من خطيئتِهِ، فصارَ وقتُ اصطيادِهِ بصنّارةِ صيدِ أسماكِ الرّبِّ، لأكلِها وتوزيعِها مأكلَ حقٍّ للإلهِ مع شهدِ العسلِ الّذي يجنيه يسوعُ، لا من النّاسِ الّذين خلقَهم، بل من توبةِ الخيبةِ واليأسِ الّلذين رافقا وجهَ المعلّمِ وحسَّ قلبِهِ وهو يعلّمُ آمرًا: “بهذا يعرفُ الجميعُ أنّكم تلاميذي إن كان لكم حبٌّ بعضًا لبعضِ” (يو ١٣: ٣٥)…

   ما الحبُّ هذا الّذي يطلبُهُ الرّبُّ يسوعُ من أتباعِهِ؟!… هو البقيّةُ المتبقّيةُ من سماعِ الإنسانِ لربِّهِ…

   “زكّا البشريّةُ السّاقطةُ”، بقيتْ فيه ولو من دون معرفةِ المواجهةِ للإلهِ، ليسوعَ، أو حسِّ وروحِ المعرفةِ الّتي ملّكَها الإلهُ للإنسانِ يومَ نفخَ فيه روحَهُ القدّوسَ. هكذا ظلّتْ فيه روحُ “الحشريّةِ” السّاعيةُ للمعرفةِ…

   “الحبُّ هذا”، هو طلبُ سماعِ صوتِ الله… “تكلّمْ يا ربُّ فإنّ عبدَكَ يسمعُ”… وصارَ اسمُ زكّا أيضًا وأيضًا “صموئيلَ” الّذي وُلدَ من رحمةِ ربِّهِ وصَبْرِ أمِّهِ، ليحيا خطيئيّتَهِ، ثم ليَمُجَّها، لأنَّ حسَّ الحضرةِ الإلهيّةِ بقيَ يعتملُ في قلبِهِ ليُحرِّرَهُ من التزامِهِ السّقوطَ بسماعِ صوتِ المخلِّصِ، مناديه من علوِّ سعيِهِ، وصعودِهِ الجمَّيْزةَ: “يا زكّا”، أسرِعْ، انزِلْ، فاليومَ ينبغي لي أن أمكُثَ في بيتِكَ…

   لا يقبلُ ولا يرضى يسوعُ باعتلاءِ خشبِ الجمّيزةِ الصّليبِ، إلاّ بعد نزولِ الإنسانِ لعيشِ جحيميّةِ نتنِهِ وحقارتِهِ، فيهربَ،  ليعلوَ علّهُ يرى من يسوعُ!!.

   يعلو الإنسانُ ليطالَ الإلهَ… فيُنزلُهُ ربُّهُ ليجعلَهُ مسكنًا له وحاجًّا يوميًّا إلى قلبِهِ!!.

   العلوُّ والاعتلاءُ سهلٌ… أمّا سُكنى الرّبِّ يسوعَ معنا – فينا، فموتٌ لخطيئةِ الأنا يوميًّا فينا، منّا ولنا…

   الحبُّ هو المكوثُ في بيتِ الإنسانِ المتألِّهِ، الخارجِ من خطيئتِهِ والصّاعدِ بها إلى أعلى الجمّيزةِ ليرى يسوعَ، فَيُرِيَهُ خطيئتَه، تاليًا، ليشفيَهُ، لأنّه قَصُرَ حين شوّهتْهُ الخطيئةُ، فصارَ سعيُ الإنسانِ الخلاصَ، وصارَ قرَفُهُ من نفسِهِ حافزًا له صوبَ ربِّهِ ليخلصَ من ذاتِهِ… وطلبُهُ معرفةِ ما لا يُعرفُ عنوانًا لحياتِهِ… ينزلَ ويُنزِلَ معه “ذاتَهُ المتكبِّرةَ”، علّهُ يعرفُ يسوعَ الحقَّ ليسجدَ صارخًا له… “ارحمْني أنا الخاطئَ”…

   ويَتبعُ الحبَّ الطّاعةُ!!. إذ حين “أطاعَ يسوعُ حتّى الموتِ، موتِ الصّليبِ رفعَهُ الرّبُّ وجعلَ اسمَهُ فوقَ كلِّ اسمٍ”… وذاكَ بصلبِهِ له مشبوحًا على صليبِ الألمِ ليحيي السّاقطين…

   الحبُّ هو الطّاعةُ، والطّاعةُ هي الموتُ!!…

   هكذا نزلَ زكّا من امتشاقِهِ العلوَّ الكاذبَ ليرى يسوعَ، لينظرَهُ ليحياه في بيتِهِ، ليحنيَ الهامةَ… وكان طلبُ الله منه أن ينزلَ ليتعشّى معه ويمكثَ في بيتِهِ… فيه…

   كان يسوعُ ينتظرُ “زكّا” لينزلَهُ من “العلوِّ الكاذبِ” الّذي يدّخرُه كلُّ إنسانٍ لنفسِهِ… لأنّ حقيقةَ معرفةِ يسوعَ هي في انفتاحِ قلبِ الحبِّ والتّوبةِ والطّاعةِ، ليأتيَ يسوعُ ساكنًا بيتَ كيانِنا بالكليّةِ… وإذ نسكنُهُ ويُساكنُنا، نقول: “لا لنا يا ربُّ، لا لنا، بل لاسمِكَ أعطِ المجدَ”!!…

   هكذا نحني لا الرّأسَ، بل رأسَ خبثِ الحيّةِ واحتيالِ كذبِ بليعالَ فينا!!…

   وفي نزولِ زكّا من كذبةِ علوِّهِ وارتفاعِهِ”لينظرَ يسوعَ من هو”… أحكمَ الطّاعةَ في قلبِهِ بصوتِ يسوعَ مناديه… وتغيَّرَ قلبُهُ… صارَ عوضَ التّسآلِ المريضِ: من هو؟!… أو من أنت؟!… صار “يقبلُ كلَّ الإنسانيّةِ ليحبَّها”، وليصيرَ اليومَ القبولُ هو دلالةَ الحبِّ والسّماعِ والطّاعةِ والتّوبةِ ليلجَ بها روحُ إلهِنا فينا، فيسكنَ قلوبَنا… لنتوبَ توًّا!!… “وصارتِ التّوبةُ… تكملُ الإنسانَ”…

   “هأنذا يا ربُّ أُعطي المساكينَ نصفَ أموالي… وإن كنتُ قد غبنْتُ أحدًا في شيءٍ أردُّ أربعةَ أضعافٍ”… فقالَ له يسوعُ، قارئًا عليه إفشينَ الحلِّ، إذ تابَ عن نفسِهِ والبشريّةِ الّتي هي هو…

   “اليومَ قد حصلَ الخلاصُ لهذا البيتِ، لأنّه هو أيضًا ابنُ إبراهيمَ”، وها إبراهيمُ أبُ البشريّةِ السّاقطةِ الّذي، عبر خطيئةِ آبائِهِ وأجدادِهِ وميراثِهِ، أتى ليسكنَ شخصَ “زكّا” القصيرَ القامةِ، “القزمَ الإنسانيِّ”، ليصيرَ البشريّةَ الجديدةَ بصوتِ يسوعَ الواعدِ الإنسانيّةَ الجديدةَ ببنوّةِ البشريّةِ له، لأنّه أتى الكونَ العتيقَ ليجدِّدَهُ، ويطلبَ قزميّةَ البشريّةِ وعلوَّها، ليطلبَها من الآبِ عروسًا عذراءَ له، فتصيرَ أمًّا لذريّتِهِ الجديدةِ، لتلامذتِهِ، لأولادِهِ، المولودين من روحِهِ القدّوسِ على صورتِهِ ومثالِهِ، فيُصبحوا، بمبادلتِهم حبَّ يسوعَ وخلاصَهُ لهم بروحِ الوداعةِ للإيمانِ به، وانفتاحِ قلوبِهم لحبِّهِ وسكناه في وسطِهم، في قلوبِهِم إذ خلصوا بحبِّ يسوعَ فجعلَهم كلَّهم، “زكّا” تلميذَ وحبيبَ يسوعَ…

 

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

31كانون الثاني 2016

 

 

 

 

 

 

زكّا!!.