...

باب التوبة

 

“أقوم الآن أعود وأقول لأبي، يا أبي قد أخطأت إلى السماء وأمامك، ولست أهلاً لأدعى لك ابناً، فاقبلني كأحد أجرائك”. أسئلة كثيرة يمكن أن يثيرها في داخلنا النص الإنجيلي، ما الذي مثلاً دفع هذا الأب لأن يحترم ابنه الأصغر ويَقسم له حصتّه ويودّعه حين أراد هذا الأخير أن يرحل؟ أليست محبته؟! المحبة تحترم الحرية حتى لو أخطأت هذه الأخيرة. ما السبب أنّ الأب بقي ينتظر ويرجو عودة ابنه الضال؟! أليس حنانه وحبّه؟! ما الذي دعا هذا الأب أن يستقبل ابنه الأصغر بالإكرام وبالقبلة ويخرج إليه لاستقباله بدل أن يحاسب على القديم؟! إنها محبته أيضاً. كم كان هذا الأب محبّاً، الذي من أجل ابنه الأصغر راح “يتوسل” إلى الإبن الأكبر بأن يدخل!! ما السبب؟ إنها محبته الكبيرة للجميع. يا لعظمتك يا محب البشر!! هذا هو الآب السماوي كما عرَّفه يوحنا “محبة”. ولا توجد كلمة تستطيع أن تعرِّف به أكثر. كل هذه الأسئلة السابقة إجابتها سهلة؟ السؤال الصعب هو ما الذي جعل الإبن الأصغر يقوم ويعود إلى أبيه؟! للسؤال جوابان. الأول إنها الخطيئة عينها. إنَّ حياة الخطيئة واهية، الخطيئة كالخرنوب غاشة، تبدو للوهلة الأولى جذابة وحلوة ولكن أثرها الأخير مرّ. خبرة الخطيئة مرات عديدة تصير دافعاً للتوبة. الإنسان خُلق صالحاً بالفطرة، لذلك يستصعب أن يحيا غريباً في عالم الشرور ولا يرتاح هناك. مع ذلك نحن نعرف أن كثيرين عاشوا في غربة عن الله مع خرنوب الخطايا ولم يغيروا حياتهم وبقي غش الظلام هُدَاهُم. لذلك إن السبب العميق والأهم الذي دفع الإبن الأصغر للعودة والتوبة كان سبباً آخر وهو التالي. الآب الحنون، هو العامل الثاني والأهم. لابدّ أن هذا الإبن تذكر في غربته، وحين لم يتواجد أحد ليعطيه حتى من الخرنوب، عندها تذكّر حبَّ الأب، وعنايته، وحنانه…هذا الواقع السماوي العذب دفق في مفاصل هذا الصغير المحلولة والمتعبة حياةً ليقوم ويعود. هذا هو باب التوبة، سَكبُ المحبة الإلهية وفيض الحب الأبوي. الحنان الإلهي جارح لكل من يبتعد. سيف الله القاطع هو حبّه اللامتناهي. وكما نصلي في أفشين الساعة السادسة: “بشوقك اجرح نفوسنا”. إنّ خبز الحياة الحقيقية الذي به يحيا الإنسان هو الحب الإلهي. لو فكرنا بشرياً. بكلمة المسيح: “تعالوا إليَّ أيها المتعبون وثقيلوا الأحمال وأنا أريحكم” فعلاً لأدركنا أن المسيح يقولها قاصداً عبارة أخرى “تعالوا إليّ أيّها المتعبون…لكي أرتاح أنا” نعم يا أحبتي، الله مُتعَب طالما نحن لسنا مرتاحين. حين نكون بعيدين عن كرامة حياتنا الحقيقية وحين لا نكون بخير، لسنا نحن من في ألم وحسب بل بالأكثر إنه هو. الله حين نبتعد ونُخطئ ، لا تتآكله الكرامة ولا يطلب حساباً أو انتقاماً الله تتآكله الغيرة، إنه إله غيور على جبلته التي تبناها بالحب الأبوي، ويريدها كما أراد لها، يريد لها حياتها. في الرسالة التي سمعناها اليوم، يقول بولس الرسول :”أنتم هيكل الله الحي”. ولقد أوضح سيدنا يسوع المسيح موقفه من هذا الهيكل قائلاً :”غيرة بيتك أكلتني”. نحن هياكل الله والله غيور على هذه الهياكل. حين نخطئ الله غيور يطلبنا. نتذكر تلك القصة من الأدب النسكي. أن الشيطان ظهر لأحد الرهبان وقال له، إن إلهكم قد غلبنا!! إننا نحيك الحبائل ونبسط الشباك تعبين سنين وسنين لنبعد أحدكم عن إلهكم، وإذا سقط مرةً وأسرناه، بكلمة واحدة والتفاتة صغيرة يعيده الله إليه وكأن شيئاً لم يحصل!! إلهكم قد فتّتنا. يا لسر محبة الله ويا لعظمة أبواب التوبة، أي أن ندرك أننا لحظة نخطئ نحن حينها لا نستحق العقوبة بقدر ما عندها ينسكب الحب الإلهي أكثر. وحيث تكثر الخطيئة تكثر النعمة.” افتح لي أبواب التوبة يا واهب الحياة”. هذا هو باب التوبة: الغيرة والحب الإلهيين، “افتح لي أبواب التوبة التي أنت أبدعتها”، تقول أفاشين المطالبسي. هذا ما عرفناه عن الآب السماوي في تاريخ البشرية. العهد القديم رغم لغته وقصصه وتاريخه…يبقى موضوعه الوحيد الجوهري إن الإنسان الشارد محترم ولكنه مطلوب من الغيرة الإلهية ومُتابع حتى النهاية من حب الآب السماوي، حتى لو اضطره الأمر أن يذبح ابنه الوحيد لذلك. هذا ما يمكن أن نختبره في كل يومياتنا وأحداث حياتنا وفي أي موقف نبتعد فيه عن بيتنا الأبوي، وما أكثر هذه الحوادث!! وما أسهل الغفران. يكفي أن نريد. “التوبة هي كره الخطيئة” يقول القديس اسحق السرياني. اكره الخطيئة ولقد أرضيت الله وصالحته. هذا ما نختبره في كل لحظة، لو سألنا هدوئياً ومصلياً ما الذي يدفعه ليعود بذهنه إلى قلبه وصلاته بعد أن شرد بعيداً؟ الجواب أنه يعرف أنه على موعد وأن يسوع هناك ينتظر وأن غيرة يسوع على هذا القلب قد أكلته..سر اللقاء بالله بعد أن نبتعد هو أن الآب على الباب ينتظر ليخرج ويرتمي على أعناقنا ويعطينا قبلة السلام. “أقوم وأعود إلى أبي وأقول له يا أبي…”.

بولس، متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما

 باب التوبة