...

بين شكّ في الإمكانيّات أمام التحدّيات وقوّة الإيمان في الغلبة على المعوّقات

يعيش كلّ مؤمن في كنيستنا في هذه الفترة فرحًا سماويًّا، تحتضنه نعمة الروح القدس ويسلّم نفسه طوعًا لها، ولفترةٍ من الزمن يترك المؤمن هذه الحياة الأرضيّة وانشغالاتها ويكرّس نفسه للربّ. وما أن يتكلّل الموسم بقيامة المسيح حتّى يعود المؤمن نفسُه إلى ما تركه سابقًا وينغمس من جديد في همومه الحياتيّة، فتلوح أمامه مجدّدًا كلّ الاضطرابات الحاضرة أبدًا في مسيرتنا الأرضيّة هذه، وما أصعبها اليوم وما أسهل عدّها بسبب حضورها الآنيّ ووقعها المرير في مجتمعنا.

نعود إلى روتينٍ يوميّ عنوانه مصاعب الحياة، ينحدر ذهننا تلقائيًّا إلى الانشغال في محاولاتٍ لإيجاد حلولٍ عمليّة تُكتب بالفشل. هذا، وبفعلٍ لا إراديّ، يضعنا في مواجهة شخصيّة مع أنفسنا وتحديدًا في مساءلة أنفسنا إن كنّا قادرين على المواجهة أو على إيجاد المخارج المناسبة، ويصيبنا الشكّ، الشكّ في قدرتنا ليس على النجاح وحسب بل حتّى في قدرتنا على احتمال المشقّات. ويغرق الإنسان، في لحظات، في تأمّل محدوديّته وعقمه في تغيير واقع يتخبّط فيه، فالتحدّيات كبيرة وهو عاجز.

أمام هذا المشهد، نتأرجح وبدرجاتٍ متفاوتة بين اليأس والدمار الروحيّ الذي بدوره يطال النفس والجسد، ومناجاة الربّ القائم من بين الأموات. في الحقيقة، كلّنا أمام تحدٍّ ايمانيّ واضح وكبير وذلك بأنّ مصدر الحياة والفرح والأمل هو الله في ذاته «انا هو الطريق والحقّ والحياة» (يوحنّا ١٤: ٦) «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يوحنّا ٨: ١٢). يبقى الايمان بقول المسيح هذا غريبًا عن معظمنا وكلامًا لا يطال واقعنا الأرضيّ، هذا إن لم يُترجم بخبراتٍ عمليّة نستقي منها نهج حياةٍ نعيشه فيصعدنا إلى الخبرة الإلهيّة. أمّا السؤال الأساس المطروح فهو من أين يأتي الإيمان؟ ومن أين وكيف يغتذي إن وُجد؟

نجد في العهد الجديد الكثير من الأمثلة عن الإيمان، حيث كان يسوع يتحنّن على الناس ويساعدهم في محنهم حسب إيمانهم، شفاء المرأة الخاطئة «إيمانكِ قد خلّصكِ، امضي بسلام» (لوقا ٧: ٥٠)، شفاء النازفة الدم «ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاكِ» (متّى ٩: ٢٢)، شفاء غلام قائد المئة «اذهب، وليكن لك كما آمنت» (متّى ٨: ١٣)، هذه كلّها خبرات عاشها أشخاص عرفنا أنّهم كانوا مؤمنين، وهذا برهانٌ على أنّ قوّة الإيمان تستجلب رحمة الربّ، ولكن ما حال الذي هو في مراحل إيمانه الأولى، أو الذي لم يثبت إيمانه بعد ويصارعه الشكّ؟

موضوع الإيمان عند الغالبيّة هو استنسابيّ، كلٌّ منّا يفسّره أو يعمل على ممارسته بحسب ما يراه هو شخصيًّا مناسبًا، نتيجة لذلك لا يجد الإيمان مرتعًا له في القلب، فيبقى غريبًا عن الخبرة الشخصيّة ويصير مناجاةً سطحيّة، وفي أغلب الأحيان ملامةً للربّ على البلايا والمصاعب المحيطة بنا. يعرّف المتروبوليت هيلاريون ألفييف الإيمان على «أنّه الدرب الذي يتمّ فيه اللقاء مع الله! والله هو الذي يقوم بالخطوة الأولى» (سرّ الإيمان)؛ الإيمان مُعطى لنا، هو لكلّ إنسانٍ إن قبله وسمع نداء الله له. الإيمان يُقبَل ويُطلب إلى الله والربّ ينمّيه ويزيده لصاحبه. صوت الله هذا الجالب للإيمان نسمعه في الآخر، نسمعه في الجماعة في الكنيسة، وبين الإخوة، نسمعه في ممارسة الصلوات الجماعيّة والمواظبة المتواترة على الأسرار المقدّسة، هذه هي البيئة التي فيها نقبل دعوة الله إلينا، ثمّ نطالبه بأن يغيث عدم إيماننا (مرقس ٩: ٢٤). وفيها نماثل توما الرسول في ضعفنا وشكّنا فيعطينا الربّ ما نحتاج ليَكمُل إيماننا. في هذا المعترك الإيمانيّ حيث نختبر الله تسقط قشور صعوبات هذا الدهر، فالتعزية إلهيّة والغذاء سماويّ، عندها كلّ مواجهاتنا الأرضيّة تمسي درجات في سلّم يوصلنا إلى المجد السماويّ، هذه هي القيامة.

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين شكّ في الإمكانيّات أمام التحدّيات

وقوّة الإيمان في الغلبة على المعوّقات