...

المجمع الأرثوذكسيالكبير

 

 

 

كنت أفضّل لو سُمي باللقاء الأرثوذكسي الكبير، لا المجمع، وذلك لأهميّة التمييز بين الاثنين. فسيحضره، بحسب ما اتُفق عليه، أربعة وعشرون أسقفاً، من كلًّ من الكنائس الأرثوذكسيّة الأربع عشرة، بينما أقرّ التراث بأن يشترك جميع الأساقفة، مهما كان عددهم، في المجمع المسكوني. كذلك يستدعي انعقاد المجمع المسكوني انتشار هرطقةٍ ما، تشكّل تهديداً للإيمان المستقيم، وانحرافاً عن الرؤية الإلهيّة الصحيحة، وهذا ما لا يوجد حاليّاً. يواجه الإيمان المسيحيعموماً، والأرثوذكسيّ، تحديداً، تحديّات كثيرة.قد تضطرّ فيها الكنيسة،لخطرها، إلى أن تنظر فيها، وتواجهها. لكنّها لا تصل إلى حدّ الهرطقة، التي تطال العقيدة المسيحيّة القويمة، وتؤثّر على الخلاص، على غرار الآريوسيّة، وحرب الأيقونات، وما إليها، من هرطقات سادت، واضطرّت الكنيسة إلى عقد المجامع المسكونيّة، بسببها.

الأخطار كثيرة جدّاً في عالمنا الموسوم بالفرديّة والاستهلاك والعولمة والإلحاد العَمَلي، البادي في تغيّر جذريّ للمناقبيّة الأخلاقيّة. جلب المجتمع الصناعي والتكنولوجيا السأم، وانعدام الرجاء، والعزلة، والوحدة، إلى جانب الرخاء الاقتصادي، والتقدّم العلمي. كلّما ازداد التطوّر التقني والعلمي،ازدادت حاجة البشر، إلى البحث عن معنى الحياة وغايتها.

المأمول الممكن من هذا اللقاء أن يكون تعبيراً عن الشركة الإيمانيّة الواحدة، القائمة بين الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة، وأن يشكّل فرصة مباركة، للتداول بشأن التحدّيات، التي يواجهها المؤمنون، في زماننا المعاصر هذا. لقاء الإخوة حدث مبارَك وفَرِح. وقد جاء في الكتاب المقدّس “هوذاما أحلى وما أجمل أن يجتمع الإخوة معاً”. مع ذلك،وككلّ لقاء، قد يحمل هذا الاجتماع، في داخله، أخطاراً ومحاذير.

يتخوف بعض المؤمنين، على سبيل المثال، من أن ينجم عن هذا اللقاء توجّهات تُلزِم الكنائس ببعض الممارسات، التي قد لا يقبلها الوجدان الأرثوذكسي، في مجال العلاقات المسكونية بخاصّة؛ أو يُنتج قرارات لا تراعي الأوضاع، التي ما زالت تتطلّب الوقت، لكي تكتشف الكنائس الصيغة الفضلى المناسِبة لها، كحال كنائس الانتشار؛ أو قد يرسي نهجاً في التعامل الأخوي، يحمل في طيّاته توجّهاً مركزيّاً، يناقض التراث الأرثوذكسيّ، وروح الشورى، واللاهوت الأرثوذكسي. كما أنّ العقليّةَ العالميّة الدهريّة السائدة، والعولمةَ، التي باتت وسيلةً لفرض ثقافة بعينها، وردودَ الأفعال المحليّة، التي تهدف إلى حماية الذات، من الغزو العولمي الطاغي، والحضورَ الخفيّ للسياسات المحليّة والعالميّة، كل هذا يشكّل عوامل تستدعي المزيد من المواجهة،لكافة التحدّيات المطروحة، بالمزيد ممّا يميّز الأرثوذكسيّة من روح الحرص على نقاوة الإيمان، والرصانة في التعاطي مع تحدّياته، والحفاظ على استقامة الرأي فيه، والانطلاق من الحقّ الإنجيلي، والإنصات إلى صوت الله عبر قدّيسيه الأحياء، لا عبر المدعوين لاهوتيّين، لمجرّد دراستهم علم اللاهوت، واستلهام الروح القدس أولاً وأخيراً.

مبدئيّاً، سيبحث هذا الاجتماع في ست أوراق، يغلب عليها الطابع الرعائي. ولكن كلّ رعاية تقوم على الرؤية التي تهدف إلى مساعدة المؤمنين على تحقيق خلاصهم؛ ولا يتحقّق الخلاص خارج الرؤية الإيمانيّة النقيّة والمستقيمة. حصرت الاجتماعات التمهيديّة، التي هيأت لهذا الاجتماع، المواضيع في الصوم، والزواج، وعلاقة الكنيسة الأرثوذكسيّة بباقي العالم المسيحي، ومساهمتها في العالم المعاصر، وكيفيّة إعلان الإدارة الذاتيّة للكنائس الناشئة، وقضيّة الانتشار الأرثوذكسي، التي ستكون الأهمّ، والأكثر عرضة لاختلاف الرؤى.

تكمن الصعوبة، في لقاء كهذا، في أنه يحصل بعد أكثر من ألف عام، من عدم اللقاء بهذا المستوى. عانت، وما تزال، معظم الكنائس الأرثوذكسيّة، في الألفيّة الثانية للمسيحيّة، من أوضاع تاريخيّة غاية في الصعوبة. أرست هذه المعاناة التاريخيّة عقليّات وطرائق مختلفة، في التعاطي مع القضايا الرعائيّة، ومواجهة التحدّيات الإيمانيّة المستجدّة. ساعد تاريخ الأرثوذكس، الثقيل والمرّ، على جعلهم يميلون إلى التمسّك بما عندهم، ولو صار، بالممارسة أحياناً، إلى ما هو عكسه. فرفض أيّ تغيير أو تعديل أو إصلاح في الممارسة، لا يزال منتشراً، بكثرة، في الأوساط الأرثوذكسيّة كافّة. فالكنائس الآتية من اضطهاد فظيع وطويل، ترفض الكلام عن الإصلاح، وترى فيه تهديداً لاستقامة الإيمان.على سبيل المثال، لن تكون مواقف الكنيسة، التي لا يعرف شعبها مجتمعاً مختلطاً، أو التي تشهد عملاً تبشيريّاً حقيقيّاً يمزّقها، من مسيحيين آخرين، متقبّلة التعاطي مع العالم المسيحي، مثل الكنيسة التي يعيش شعبها، بسلام، وسط مجتمع متعدّد، وثقافات روحيّة متنوعة.

إلى ذلك تلعب العوامل التاريخيّة والظروف السياسيّة دوراً مؤثراً في رفع درجة الحساسيّة من بعد سياسيّ ما، لأيّ قضيّة مدار بحث. كما تشهد كثرة من الشعوب الأرثوذكسيّة استفاقة قوميّة، في الوقت الذي يعتبر الإيمان الأرثوذكسي الإثنيّة هرطقة. سترخي هذه الظاهرة بظلالها بالتأكيد على جوّ الاجتماع، ولو بشكل غير مباشر. فأحلام الأوليّة والمركزيّة والسلطة وروما الأولى والثانية والثالثة، قائمة هنا وثمّة. كيف ستعالَج قضيّة الانتشار الأرثوذكسيّ في المهاجر في مناخ كهذا؟
يبقى السؤال الأهمّ، في نظري، كامناً في مضمون الرسالة الرعائيّة الختاميّة، التي سيوجّهها الآباء المجتمعون إلى المؤمنين والعالم. في ظل الرؤى الرعائيّة الكثيرة الاختلاف والتنوّع، بين الكنائس، ما هي الأجوبة والإرشادات التي سيحملها الاجتماع، لأبناء الكنيسة وللعالم؟

لا شكّ في أنّ التحدّي عظيم، ولكن الإيمان بحضور الروح القدس وفعله عظيم أيضاً. لطالما تعرّضت الكنيسة، على مدى التاريخ، لأخطارٍ كادت تودي بها أحياناً، لكن سيّدها حفظها بطرقٍ هو وحده يعرفها ويوجدها. ولا شكّ في أنّ الكنيسة ملأى بالأنقياء والبررة، الذين يعمل الروح فيهم، ويستخدمهم، لكي يوجّه دفّة السفينة نحو الميناء الأصلح. رجاؤنا أن يكون صوت القدّيسين الأحياء مسموعاً.

اللقاء، بحدّ ذاته، بعد ألف سنة إنجازٌ كبير، وإذا ما نجح، فسوف يهيّء النفوس والقلوب إلى العمل المشترك، وتبادل الخبرات، بشكل أكثر فاعليّة وتأثيراً في المستقبل. يبقى أن يرافقه جميع المؤمنين، المتحمّسين له، والمتوجّسين منه، والرافضين إيّاه، بصلوات حارّة، ونقاوة سيرة، لتكون السيادة فيه للروح القدس وحده.

المطران سابا (إسبر)

23 أيار 2016

http://www.mjoa.org/cms/index.php/others/2011-12-29-09-32-16/12748-2016-05-24-07-51-13

 

 

 

 

 

 

المجمع الأرثوذكسيالكبير