...

التداوي بالمرض

المرض ليس مِن صُنع الله، فهو لخالص محبته لم يتعدّ على مشيئة الانسان الحرّة المعاندة له، الّتي هي بعينها سبب خطيئته. أُلبِسَ الانسان إذًا بعد سقوطه الطوعيّ جسدًا قابلاً للمرض والموت، فهو ليس وارثًا بعد لخطيئة آدم بل لنتائجها، وتُضاف عليها خطاياه الشخصية بحقّ جسد المسيح بكامله لكونه جزءًا منه بحيث يصبح كل واحد منا مسؤولاً أمام الكلّ وفي كل شيء.

المرض يمكن أن يكون نتيجة الخطيئة أم لا؟ فبالمسيح أُصلحت الطبيعة البشرية الساقطة بآدم لكن الشرّ مستمر في هذا العالم بسبب إستمرار العصيان الإراديّ للبشرية. لذلك تبقى نتائجه مؤثّرة في الطبيعة الانسانية.

 

مقاربة بين الصحة والمرض:

الصحة ليست خيرًا مطلقًا أإذ إنها قد تُستعمل بقصدٍ شرّيرٍ. والمرض ليس شرًّا مطلقًا في أساسه إذ إنه قد يُستخدم في الوقت عينه لما فيه الخير والقداسة. من هنا، أن الصحة، إن لم تُستعمل بشكل جيد ولأجل الخير وتمجيد الله، فهي لا تُفيد الإنسان بشيء، لا بل انها قد تنقلب الى شرّ مدمّر اذا أبعدت الانسان عن الله جراء إحساسه بالقوّة والاكتفاء الذاتي أو إذا استعملت لأجل إشباع الأهواء والترف والتنعّم المسرف ( كالشاب القويّ المتباهي بنفسه  الّذي يغرق في ترف الحياة وملذاتها، أو الفتاة الجميلة الصحيحة الجسم اللامبالية بالله وبالآخر الّتي تغتّر بنفسها وتُلقي بنفسها في متع الحياة…).

 

المنافع والمضار الروحية للمرض:

–       المرض المحيي النفس:

ليس من المفترض بالمؤمن أن يغفل عن الجوانب الايجابية للمرض –وهي غير قليلة- إذ يمكن للمرض أن يفيد الانسان ويقرّبه الى ربّه. فالمرض، في وقته، يكون غير باعث على الفرح في أكثر الاحيان لكنه يروّض النفس ويلمؤها بثمر البرّ والسلام… المرض لا يمكن أن يبعدنا عن الله أو يضرّنا اذا كانت نفسنا سليمة، فالمرض له معنى وهدف يتخطّيان الطبيعة البشرية لأنه يدلّ على ضعف طبيعتنا ومحدوديتها، فيحطّ من كبرياء الانسان ويعيده الى واقع أنه تراب و”بخار يظهر قليلاً ثم يختفي”، فيعود الانسان الى نفسه ويتوب الى ربّه إذ يقوى لديه الحسّ بالروحيات بعد أن يفقه بأن لا شيء باقٍ في هذه الدنيا. وبالمقابل، يضعف الحس ّالدنيوي في فكر المريض المتألّم وحياته، اذ يركن الى هدأة نفسه وينسك في قلبه متنزهاً عن كثير من الاهتمامات الدنيوية مبتعدًا عن حبّ الشهوات وكأنها ما عادت تعنيه أو كأن ما يعنيه منها هو شهوة الحياة الآتية حيث لا وجع ولا همّ ولا تنهّد.

من جهة أخرى، يُعتبر المرض والالم جزءًا من الأتعاب النسكيّة الّتي تُروّض الافكار وتنقّي القلب وتُضعف الشهوات، كما أن الصبر في المرض مع الشكر قد يحلّ محلّها أو ينزل منزلتها ومنه تنبع خيرات روحية كثيرة. إن المرض يشكّل فرصةً ملائمة جداً للشهادة المسيح وتقويةِ إيمان المريض ومحيطه  الّذي قد لا يكون بالضرورة مؤمنًا، بمعنى أن المتألم المؤمن يصبح رسولاً ومبشرًا بالفعل ودونما حاجة الى كثير الكلام أو قليله!!  أضف الى ذلك أن المرض يروّض المؤمن في اكتساب فضيلة الصبر لكونه من أكثر المشاكل ثقلاً وتضييقًا على النفس البشرية، “لأن الضيق يولد الصبر، والصبر الامتحان، والامتحان الرجاء” كما يعلّم بولس  الّذي يُعتبر بحقِّ رسولَ الآلام بامتياز إذ تحمّل منها عذابات تقديسية كثيرة. وأيضًا، لا بدّ أن نذكر بأن الكتاب المقدّس لم ينسُب إلى لعازر الفقير اي فضيلة فيما خلا الصبر على احتمال مرضه، وهذا فقط خوّله لأن يُقتبل في أحضان إبراهيم.

المرض هو أيضًا مصدر روحيّ للتواضع، فهو يُضني عنفوان الجسد ويُحجّم الحسّ الدنيوي للنفس ويحمل الانسان على التوبة ويحرّك فيه التخشّع ويثير في النفس استعدادًا للصلاة. نعم، إن المرض ينبوعٌ للصلاة الحارّة الّتي تستجلب المعونة الدائمة في وقت الشدّة. الا أن المعونة المنسكبة من العُلى قد لا تحمل بالضرورة شفاءً للجسد اذ إن الله يمنح الإنسان ما هو أنسب روحيًا له، علمًا أن استمرار المرض أحيانًا قد يفتح المجال للعناية الإلهية لتعطي ما هو أكثر خيرًا، لذا وجب أن نطلب في صلاتنا أن يعطينا الربّ ما هو الأفضل لخلاصنا دون أن نُصرّ على التعافي الجسديّ، واضعين أنفسنا تحت مشيئته وإرادته بكل ثقة وتسليم واتضاع، لأن المريض يطلب في معظم الأحيان تحقيق إرادته الّتي تتوق إلى التحرّر من الأوجاع. في الواقع، إن هذا التحرّر من الإرادة الخاصة يُظهر تواضعًا وحبًا خالصًا لله مع عدم أنانية، وهو يؤول الى شفاء النفس قبل الجسد، وأجره عظيم عند الله.

في هذا السياق لا بدّ من أن نذكر أن صلاة الجماعة لها قوّة شفائية عظيمة سيّما وأن الكتاب قد أوصى بها “صلوا بعضُكم لأجل بعض لكي تشفوا” و”احملوا بعضُكم أثقال بعض”. فالمريض يمكن أن يُشفى بإيمان وصلاة الجماعة -كمثل المخلّع حيث رأى يسوع “ايمانهم” (اي إيمان  الّذين حملوه)-. لذلك يجب على الجماعة أن تصلّي لأجل أعضائها المرضى لكي تكون الكنيسة جسدًا واحدًا بالمسيح. فصلاة الجماعة لها قوة للجسد بكامله  الّذي هو المسيح، لأنه من أجل هذه المحبة اتّحد الله بالانسان والانسان بالله كما يقول الحبيب يوحنا في رسالته “الله محبة، فمن أقام في المحبة اقام في الله والله فيه”. الصلاة من أجل المريض هي مسؤولية روحية لكل مسيحيّ لكي نحب قريبنا كنفسنا ونحمل المريض كما حمله السامريّ الشفوق متمثّلين بالله وبرحمته الكبيرة لكل الخلائق.

–       المرض المميت النفس :

من جهةٍ أخرى، كان المرض امتحانًا قويًا للإيمان لما ترتديه الطبيعة البشرية من ضعفٍ وخوفٍ، فمن السهل أن يصبح المريض فريسةً لشيطان اليأس إذ يرزح ومحيطه تحت عبء المرض ووطأة الألم ومعاناته الّتي قد تصعب وتطول، فينغلق على نفسه ويستسلم لأن المرض سيف ذو حدين وهو قد يُبعد الإنسان عن ربّه بدل أن يقرّبه منه إذا ما أصرّ على القلق والاكتئاب والتململ والتأفّف من آلامه ولوم الله على ما آلت اليه حالته والتضجّر من محيطه، سيما إذا لم يجد حبًا ولم يلقَ تفهّمًا وإيمانًا وتشجيعًا من محيطه القريب ومساندة وتشديدًا ومحبّة وصلاةً من الجماعة بأسرها. يتجلّى هذا الوضع بوضوح لدى بعض المصابين بالأمراض والآلام المزمنة أو المستعصية  الّذين غالبًا ما يكونون عرضةً أكثر من سواهم من المرضى للتململ واليأس والحزن والضجر والخوف والتمرّد…

 ففي هذه الحال وجب على المريض المؤمن ومحيطه أن يدأبا على استذكار أن الله رحيم وقريب وعالِم بضعفنا، وهو لا يُجرّبنا فوق الطاقة إذ يعطي مع التجربة منفذًا ومع الألم أداةً لاحتماله وتعزية، وبأنه، ولو أتت مساعدة الربّ متأخرة، فهو لا بدّ عالمٌ بما ينفعنا إذ إنه القائل “لن أُهملك ولن أَتركك” و”شعرةٌ من رؤوسكم لا تهلك”… كما أن صبر المريض يُذكّر بما جاء في الكتاب من أنه “بصبركم تقتنون نفوسكم” و”مَن يَصبر الى المنتهى فهذا يخلُص”. فإن كنا لا نتحمّل الآلام والامراض بشجاعة وإيمان فكيف سنتحمل بالأحرى الصليب  الّذي لا ولوج الى الفرح والقيامة والحياة الحقّ بدونه، ولا تحرّر من ضعفات الجسد ولا سلام ؟!

ختامًا، نذكر بأن رحمة الله تتأجّج في أعماق لجّة اليأس البشري، وأنه في الضعف يُظهِر الله كمال قوته في المتألم “لأن قوتي في الضعف تكمل”، فالربّ بنفسه يسهر على المريض ويحفظه من اليأس ويساعده في تخطي ضعفاته وصعوبات حالته. فالربّ يُظهر محبته للنفس المريضة على قدر صعوبة الأحزان الّتي تواجهها “أَلقِ على الربّ همك وهو يَعُولُكَ”…

خلاصة الحديث أن الربّ محبة خالصة، وهو يعطي لكل منا ما هو لمنفعته الروحية من صحة ومرض. أما إذا مرضنا فلنذكر بأن المرض يكشف بؤس الانسانية المنفصلة عن الله، وهكذا نستخدمه لتطهير نفوسنا وتمجيد الله. ففي الاحزان والآلام نصبر ونرجو ونشكر الله، فيتحوّل كل شيء لقداستنا بمشابهة المسيح  الّذي بموته وآلامه وصل الى القيامة.

يقول الذهبي الفم بأن الألم يُسيطر علينا بسبب الخطيئة في حين أن الالم في الوقت عينه يُحرّرنا من الخطيئة، فالآلام تصبح آلامًا خلاصية!! هذا يعني أنه بنعمة المسيح يصبح المرض الجسدي دواءًا لشرور النفس البشرية!! فالمرض  الّذي يرافق الانسان ليس سوى جزء بسيط من الأحزان الكثيرة الّتي بواسطتها يدخل الإنسان ملكوت الله، وهو جزء من الصليب – الّذي نحمله ونتحمّله- لكي نستحقّ المسيح ونتبعه في طريق الخلاص  الّذي شقّه لنا باحتماله الألم. يضيف القديس إسحق السرياني بأنه دون تذوّق سبب آلام المسيح ومعرفتها في الجسد، فلن يكون للنفس نصيب في الشركة مع الله، مما يعني أن الآلام تُشركنا مع المسيح المتألم على الصليب نفسه بحيث نصبح بها “مسحاء” شركاء في آلامه وبعدها في قيامته وحياته!!…

 

              

                     للدكتور ناظم باسيل

نشرة رقم 34    دير مار ميخائيل – بسكنتا

التداوي بالمرض