...

شهر العسل

لأنّ حدث الخروج يُستعمل كصورة لاهوتيّة عن المعموديّة المقدّسة (الخروج من العبوديّة في مصر، وعبور الشعب بـ«أرجل غير مبتلّة» البحر الذي شقّه الربّ أمامهم إلى شطرين، مغرقًا فرعون ومَركباته فيه)؛ لذلك، لا عجب إن صوّرنا خبرة المؤمن ما بعد المعموديّة، كرحلة لمدى الحياة من التجوال في الصحراء. دلائل عديدة من مصادر التعاليم المسيحيّة الأولى، تشهد على هذا التشبيه (١كورنثوس ١٠: ١-١١؛ عبرانيّين ٣ و٤).

في المصادر الكتابيّة لتجربة إسرائيل القديمة في الصحراء، يجد المسيحيّون بشكل أساس، محاذير حول ما يجب عدم فِعله: «وهذِه الأُمُورُ حَدَثَتْ مِثَالاً لَنَا، حَتَّى لاَ نَكُونَ نَحْنُ مُشْتَهِينَ شُرُورًا كَمَا اشْتَهَى أُولئِكَ» (١كورنثوس ١٠: ٦). وأيضًا: «فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ فِي عِبْرَةِ الْعِصْيَانِ هذِهِ عَيْنِهَا» (عبرانيّين ٤: ١١). تذكُر البشارة الرسوليّة بشكل عامّ، خبرة ضياع إسرائيل في الصحراء، كوقت مهدور على الفشل الروحيّ والأخلاقيّ (أعمال ٧: ٣٦-٤٣؛ ١٣: ١٧-١٨)، لتؤكّد صارخة: «يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ! أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ!» (أعمال ٧: ٥١).

بالفعل، فإنّ معظم الشواهد الكتابيّة تنظر إلى التجربة التي عاشتها إسرائيل في الصحراء على كونها كارثة كاملة! خلال كلّ تلك السنوات من الترحال والضلال، كانت إسرائيل لا تكفّ عن خياناتها لله، وتذمّرها عليه باستمرار، وتجربتها له عند كلّ منعطف. ذكرى هذه التجربة الإسرائيليّة «الصحراويّة» تجد تعابيرها في أسفار المزامير، وحزقيال، خلال فترة السبي الى بابل. مُلخّص هذا التقليد: «فَتَمَرَّدُوا عَلَيَّ وَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَسْمَعُوا لِي، وَلَمْ يَطْرَحِ الإِنْسَانُ مِنْهُمْ أَرْجَاسَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا أَصْنَامَ مِصْرَ. فَقُلْتُ: إِنِّي أَسْكُبُ رِجْزِي عَلَيْهِمْ لأُتِمَّ عَلَيْهِمْ سَخَطِي فِي وَسْطِ أَرْضِ مِصْرَ» (حزقيال ٢٠: ٨).

أنبياء آخرون، أخذوا نهجًا أكثر تأهيلاً للحقبة التاريخيّة ذاتها من حياة إسرائيل. هوشع، على سبيل المثال، نظر إلى سنوات الصحراء كأنّها نوع من «شهر عسل» بعد زواج الربّ بشعبه في جبل سيناء. حتّى إنّ هوشع ترجّى تجديد ذلك الزمن – كمثال شهر عسل جديد: «لكِنْ هأَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَأُلاَطِفُهَا، وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ، وَوَادِي عَخُورَ بَابًا لِلرَّجَاءِ. وَهِيَ تُغَنِّي هُنَاكَ كَأَيَّامِ صِبَاهَا، وَكَيَوْمِ صُعُودِهَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (هوشع ٢: ١٤-١٥).

لا بدّ من أنّ هوشع يعرف تمامًا، وبطبيعة الحال أنّ: «بِأَكْثَرِهِمْ لَمْ يُسَرَّ اللهُ، لأَنَّهُمْ طُرِحُوا فِي الْقَفْرِ» (١كورنثوس ١٠: ٥)؛ ورغم ذلك، اختار هذا النبيّ عدم الخوض في تلك الأفكار الحزينة. هو ركّز انتباهه عمدًا على أيّام أكثر إشراقًا وأكثر سعادة، قبل حادثة العجل الذهبيّ. للحفاظ على رابط زواج الربّ بشعبه، عرف هوشع، أنّه من المهمّ تذكّر الأوقات الجيّدة ومحاولة عدم الخوض في السوء.

قد يدفعنا الشكّ في أنّ قرار هوشع في هذه المسألة تُحدّده ظروف دعوته (نبوءته) الشخصيّة. لأنّه مثل ربّ الخروج، هوشع أيضًا تزوّج بزانية، امرأة سائبة لا تنفكّ تُثبِتَ عدم إخلاصها باستمرار. ومع ذلك، وبدلاً من التركيز على تلك الخيانات العديدة، فإنّ النبيّ عازم على تثبيت عقله على الأيّام السعيدة، عندما أمره الربّ، ليس فقط بأن يتزوج بتلك المرأة (١: ٢)، ولكن أيضًا بأن يُحبّها (٣: ١). وعلى مثال الربّ مع إسرائيل غير الْمخلِصَة، أبقى هوشع تلك الأوقات السعيدة، على قِصَرها، في باله.

لاحقًا، اعتمد إرمياء النبيّ منظور هوشع ذاته. الربّ نفسه، حتّى حين كان يستعدّ لتدمير أورشليم، في فترة حياة إرمياء، أشار مرّة أخرى إلى «شهر العسل» هذا في الصحراء: «اذْهَبْ وَنَادِ فِي أُذُنَيْ أُورُشَلِيمَ قَائِلاً: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ ذَكَرْتُ لَكِ غَيْرَةَ صِبَاكِ، مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ، ذِهَابَكِ وَرَائِي فِي الْبَرِّيَّةِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَزْرُوعَةٍ. إِسْرَائِيلُ قُدْسٌ لِلرَّبِّ، أَوَائِلُ غَلَّتِهِ» (إرمياء ٢: ٢-٣).

رغم أنّ جميع البالغين تقريبًا، من الذين عبروا البحر الأحمر، لاقوا حتفهم في وقت لاحق في البرّيّة؛ حافظ الربّ على رحمته نحوهم كلّما واصلوا طريقهم عبر الصحراء. هم ماتوا لأسباب مختلفة، ولكن ليس جوعًا، لأنّ الربّ أرسل لهم خبزًا يوميًّا من السماء وبطريقة مُستدامة. بحقيقة القول، حتّى ملابسهم لم تبلَ عليهم ولا النعال في أقدامهم بليت (تثنية ٢٩: ٥). أمّا الله فقد: «أَحَاطَ بِهِ وَلاَحَظَهُ وَصَانَهُ كَحَدَقَةِ عَيْنِهِ. كَمَا يُحَرِّكُ النَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ» (٣٢: ١٠-١١).

في السِفر الأخير من الكتاب المقدّس، نلاحظ هذا الجانب الأكثر إيجابيّة من عمليّة الترحال في الصحراء، في رؤيا يوحنّا للكنيسة المهدّدة بالاضطهاد: «وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ» (رؤيا ١٢: ٦).

إذ قد سجدنا لصليب حبّه المزروع في وسط صحراء الصوم الكبير على جبل سيناء، تتطلّع العروس الى ختنها هاتفة: «اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ» (نشيد الأنشاد ١: ٤)، إلى «شهر العسل»، «لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ» (

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شهر العسل