وُضعت ساعة الأبديّة في التاريخ البشريّ عندما حان ملء الزمان، بعد أن أعدّ اللهُ كلّ شيء من أجل مجيء المخلّص. تجسُّد الابن الوحيد توّج تاريخًا حافلًا بمحطّات ونبوءات لمسناها في العهد القديم ورأينا تحقيقها في المسيح يسوع. بطاركة العهد القديم وأنبياؤه وعدد من أتقيائه، من رجال ونساء وشيوخ وحكماء، كانوا خير خدّام للتدبير الإلهيّ الذي اعتلن لنا بالتجسّد الإلهيّ.
لم يجد عمل التهيئة هذا لا القبول المفترَض ولا الإيمان والتعاون والأمانة المطلوبة، فقد تعرّض مَن أرسلهم الله لشتّى أنواع التعييرات والاضطهادات نلمس توصيفًا لها لدى الرسول بولس: «قهروا ممالك، وعملوا البرّ، ونالوا مواعد وسدّوا أفواه الأسود وأطفأوا حدّة النار، ونجوا من حدّ السّيف… وعُذّب آخرون… وآخرون ذاقوا الهزء والجلْد والقيود أيضًا والسجن. ورُجموا ونُشروا وامتحنوا وماتوا بحدّ السيف، وساحوا بجلود غنم وجلود معزٍ، وهم معوزون مضايَقون مجهودون… وكانوا تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض» (عبرانيّين ١١: ٣٣-٣٨).
هذا الواقع لم يثنِ الله عن أن يستمرّ في تحقيق تدبيره، ولنا المثال في الربّ يسوع الذي صادف بموته على الصليب المصير الذي سبقه إليه عبيده الأصفياء، ومثال رسله وتلاميذه على مرّ العصور والأجيال، إلى كلّ أقطار المسكونة، ليدعوا كلّ المتغرِّب عن الإله الحقيقيّ إلى معرفته والإيمان به.
ربّ سائل: ما هو واقع قبول الإنسان لهذه الدعوة؟ ما هو واقع التزام المسيحيّين بها، سواء من جهة استجابتهم للدعوة، أو من جهة عملهم من أجل تحقيقها مع أترابهم في واقعهم الراهن؟ ليست الاستجابة هي المثلى، فكان لا بدّ من أن تختار الكنيسة أن نقرأ مثل الدعوة إلى العشاء في زمن التهيئة لحدث الميلاد.
يحدّثنا المثل عن «عشاء عظيم» وقد دُعي إليه كثيرون. ومن باب الإمعان في تكريم مدعوّيه، أرسل صاحبُ الدعوة عبده لتذكيرهم بالعشاء، لأنّ «كلّ شيء قد أعدّ» (لوقا ١٤: ١٧) من أجل الاحتفاء بهم. ما من ريب في أنّ استعداده وجهوزيّته قد رافقهما الفرح والمحبّة مع الإكرام. فنيّاته عبّرت عنها أفعاله فكانت عربونًا عن غايته.
للأسف، خذل المدعوّون صاحب الدعوة بشكل واضح ومتعمَّد. فالذين سبق وقبلوا دعوته، اعتذروا جميعًا على حين غرّة وفي آخر لحظة، وكأنّي بهم قد قصدوا إحراجه ولربّما إذلاله. فالأعذار التي قدّموها مأخوذة من صلب الحياة اليوميّة، كالاهتمام بحقل أو ببقر أو بزوجة (لوقا ١٤: ١٨-٢٠). ساعتها قام صاحب الدعوة بتوسيع دائرة المدعوّين على دفعتَين، فدعا أوّلًا المساكين وأصحاب العاهات الذين هم في شوارع المدينة وأزقّتها، ثمّ المهمَّشين الذين هم على الطرق والسياجات، مشدّدًا على عبده أن يلزم هؤلاء بالدخول حتّى يمتلئ بيته (لوقا ١٤: ٢١-٢٣). إنّها صورة عن شموليّة دعوته كلّ الناس وعن تدبيره المستمرّ من أجل خلاص الإنسان، مقصيًا عنها الذين سبق ودعاهم ثمّ اعتذروا عن تلبيتها من تلقاء أنفسهم (لوقا ١٤: ٢٤)، وأيضًا الذين دعاهم ولكن لم يستعدّوا بشكل يليق بالمقام، كما يظهر في ملحق هذا المثل كما يرد في إنجيل متّى (٢٢: ١١-١٤).
أمامنا إذًا الكمّاشة بقبضتيها جاهزة لتعصرنا، فمن جهة قبضة الاعتذار والإحجام عن تلبية الدعوة إلى العشاء، ومن جهة أخرى قبضة تلبيتها كيفما اتّفق. إنّهما خطران ماثلان أمامنا في غمرة استعدادنا لاستقبال حدث التجسّد، ومسلّطان على طريقة احتفالنا بعيد ميلاد المخلّص. حريّ بصوم الميلاد أن يشقّ لنا الطريق الملوكيّة لنكون ضيوف المسيح على مائدته، أي أولئك الضيوف الذين يرغب في أن يكرّمهم ويخدمهم بنفسه. سواء كنّا من المدعوّين الأوائل، بداعي التزامنا في الكنيسة، أو من المدعوّين على عجل، بداعي تغرّبنا عن الكنيسة، فنحن نعي تمامًا أنّ احتضان الربّ لنا جميعًا قائم ولافت، وقدرته على الوصول إلى كلّ واحد أمر مفروغ منه، ورغبته في أن يمتلئ بيته جامحة وثابتة. هلّا استيقظنا من سبات الإهمال والعادات والتلكّؤ والسطحيّة لنتلقّف الفرصة الحاضرة المعطاة لنا اليوم لنختاره هو؟ هلّا اتّشحنا بلباس الاتّضاع والتوبة الذين يليق بصاحب الدعوة؟ هلّا استعدنا حيويّتنا وعزمنا في خدمة توصيل الدعوة إلى الذين يقصد الربّ أن تصلهم؟ هلمّ بنا إذًا إلى ديار الربّ، إلى ديار بيت إلهنا، فنفرح بالربّ ونخدمه من كلّ القلب ونجالسه على مائدته بانسحاق وامتنان. لعمري، أَليس هذا هو فحوى المثل؟
+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: كولوسي ٣: ٤-١١
يا إخوة، متى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم أيضا تُظهَرون حينئذ معه في المجد. فأَميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذي هو عبادة وثن، لأنّه لأجل هذه يأتي غضبُ الله على أبناء العصيان، وفي هذه أنتم أيضًا سلكتُم حينًا إذ كنتم عائشين فيها. أمّا الآن فأنتم أيضًا اطرحوا الكلّ: الغضب والسخط والخبث والتجديف والكلام القبيح من أفواهكم. ولا يكذب بعضُكم بعضًا بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبَسوا الإنسان الجديد الذي يتجدّد للمعرفة على صورة خالقه حيث ليس يونانيّ ولا يهوديّ، لا ختان ولا قلف، لا بربريّ ولا إسكيثيّ، لا عبدٌ ولا حُرّ، بل المسيح هو كلّ شيء وفي الجميع.
الإنجيل: لوقا ١٤: ١٦-٢٤
قال الربّ هذا المَثَل: إنسان صنع عشاء عظيـمًا ودعا كثيرين، فأَرسل عبده في ساعة العشاء يقول للمدعوّين: تعالوا فإنّ كلّ شيء قد أُعدّ. فطفق كلّهم، واحد فواحد، يستعفُون. فقال له الأوّل: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدّ لي من أن أَخرج وأنظره، فأسألُك أن تُعـفيني. وقال الآخر: قد اشتريتُ خمسة فدادين بقرٍ وأنا ماضٍ لأُجرّبها، فأسألك أن تُعفيني. وقال الآخر: قد تزوّجتُ بامرأة، فلذلك لا أستطيع أن أجيء. فأتى العبد وأخبر سيّده بذلك. فحينئذ غضب ربّ البيت وقال لعبده: اخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينة وأَزقّتها، وأَدخِل المساكين والجُدع والعميان والعرج إلى ههنا. فقال العبد: يا سيّد قد قُضي ما أَمرتَ به، ويبقى أيضا محلّ. فقال السيّد للعبد: اخرُجْ إلى الطرق والأسيجة واضطررهم إلى الدخول حتّى يمتلئ بيتي. فإنّي أقول لكم إنّه لا يذوق عشائي أحد من أولئك الرجال المدعـوّين، لأنّ المدعوّين كثيرون والمختارين قليلون.