...

أمّا أنا فصلاة

 

 

سأل الإخوةُ مرّة الأبَ أغاثون، عن الفضيلة والعمل اللذين يتطلّبان الجهد الأكبر. فأجاب بأنْ ليس من عملٍ شاقٍّ أكثر من أن نصلّي إلى الله؛ لكون الصلاة أكثر ما يزعجُ المجرّب، ويدفعه إلى خوض معركة إسكاتنا، والاستسلام للكسل.

فإنْ كانت الصلاة عملَ الإنسان الصعب، فالكلام فيها أصعب، لأنّ الصلاة الحقيقيّة ليست من كلام. الصلاة تبدأ حين تنتهي الكلمات. هي تنمو في الصمت، في عالم الإنسان الداخليّ، في تنهّدات قلبه، «أنصِتْ الى تنهّدي» (مزمور ٥: ١)، لا على ضفاف الشفاه والألسنة.

يرى الإنسانُ الصلاةَ عملًا صعبًا، لكونه يعتبرها عملًا إنسانيًّا. أمّا هي، في الحقيقة، فعملُ الله فيه، كقول القدّيس غريغوريوس السينائيّ: «الصلاة هي الله». أي أنّها ليست ما يفعله الإنسان أو يقدّمه لله، إنّما ما يفعله الله فيه، وتفعله النعمة الإلهيّة في قلبه؛ فيصير الله الكلَّ في الكلّ في حياته، ويسكن فكرَه وقلبه ولسانه وحواسَّه ويجدّدها، «وإذ يسكنُ كلمتُكَ يا ربّ ويتردّد فينا، نصيرُ هيكلًا لروحِكَ الكلّيّ قدسه» (من القدّاس السابق تقديسه).

كلُّ مصلٍّ حقيقيّ، هيكلٌ للروح القدس. فالروح هو الذي يصلّي فينا، ويعلّمنا ماهيّة الصلاة، وكيف يجب أن نصلّي، لكوننا لا نعرف أن نصلّي كما يجب (رومية ٨: ٢٦). والروح هو الذي يُتّحدُنا بعضُنا ببعضٍ في شركة روح قدس واحد، تقودُنا بدورها إلى الاتّحاد بالله؛ وهذه غاية الصلاة الأولى والأخيرة.

الصلاةُ ثمرة الحبّ الذي فينا، وصرختُه. والثباتُ في الحبُّ، بدوره، ثمرةٌ للصلاة. فالذي يحبّ، يخاطبُ حبيبه؛ والذي يخاطبُ حبيبه، يحبّه أكثر، لأنّه بذلك يعرفه أكثر. هذا سرّ الصلاة.

الصلاة ليستْ واجبًا نقدّمه لله. هي حاجةٌ لنا منه. نحن مَن يحتاج إليها، لا هو. فمَن نظرَ إليها كواجبٍ، ينفرُ منها ويعتبرها عبئًا ثقيلًا عليه، كما ينفرُ الإنسانُ عادةً من واجباتٍ تُفرَضُ عليه من خارج. أمّا مَن نظرَ إليها كحاجةٍ، سيسعى إليها، كما يسعى الإنسانُ عادةً إلى تأمين حاجات حياته.

الصلاةُ ليست أن نطلبَ إلى الله أشياء، لأنّ بذلك يستحيلُ الله في حياتنا وسيلةً للوصول إلى ما نريد ونحتاج. الصلاة الحقيقيّة أن نطلب أمرًا واحدًا فقط؛ أن نطلبَ الله نفسه؛ بذلك تبقى الصلاة وسيلة، للوصول إلى مَن نريدُ ونحتاج؛ فالصلاةُ الوسيلة، واللهُ الغاية. هذا ما يعنيه قول الربّ لنا: «أطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه، وكلّ شيء يُزادُ لكم» (متّى ٦: ٣٣).

الصلاةُ ليست أن نصلّي في وقت محدّد، إنّما أن نصليّ في كلّ وقت، إذ لا وقت للصلاة، «صلّوا بلا انقطاع» (١تسالونيكي ٥: ١٧).

ولنا في كلّ هذا نموذجٌ كبيرٌ، وهو داود النبيّ، رجل الصلاة الكبير، الذي لم يعطِ لعينَيه نومًا، ولا لجفنَيه نعاسًا» (مزمور ١٣٢: ٤)، والذي طول النهار كان يلهج باسم الله (مزمور ١١٩: ٩٧)، ويسبّحه سبع مرّات في اليوم وأكثر (مزمور ١١٩: ١٦٤)، ويذكره وهو على فراش نومه (مزمور ٦٣: ٦)، ويقوم في نصف الليل ليحمدَ الربّ (مزمور ١١٩: ٦٢)، والذي كانت عيناه تسبقان تباشير السحر، ليلهج بكلامه (مزمور ١١٩: ١٤٨)، ويبكّر عطشًا وتوقًا إليه (مزمور ٦٣: ١)، حتّى صار هو نفسُه صلاةً لله حيّة، «أمّا أنا فصلاة» (مزمور ١٠٩: ٤).

فإنْ كنّا نطلب الصلاة، ما علينا إلّا أن نصلّي. هذه وصيّة المصلّين لنا: «صلِّ، والصلاةُ تعلّمكَ كيف تصلّي».

 

 

 

 

 

 

 

 

أمّا أنا فصلاة