خلال السنتين اللتين قضاهما الرسول بولس في السجن في قيصريّة (أعمال ٢٤: ٢٧)، كان لبعض
الإخوة «العاملين معه» إمكانيّة الوصول إليه بشكل كاف، بحيث يمكنه إشراكهم، بعبارته «يُسلّم
عليكم»، في الرسائل التي كتبها في ذلك الوقت. واشتمل عدد رفاقه، «العاملين معه»، على مرقس
وأرسترخس وديماس ولوقا (فليمون ٢٤). من الغريب، كما سنرى، أن يذكر بولس ديماس ولوقا معًا.
قرب نهاية رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسّي (٤: ١٤)، التي كُتبت خلال الفترة ذاتها، كتب بولس،
«يسلّم عليكم لوقا الطبيب الحبيب، وديماس». يبدو أنّ هذين الرجلين، ديماس ولوقا، سافرا بعد ذلك مع
بولس إلى روما، حيث أمضى عامين آخرين تحت الإقامة الجبريّة (أعمال ٢٨: ٣٠). عندما كتب بولس
إلى تيموثاوس في نهاية تلك الحقبة، كان يستعدّ للموت، أشار إلى ديماس ولوقا، بشكل نهائيّ، ومهمّ
للغاية: «لأنَّ ديماس قد تركني إذ أحبّ العالم الحاضر وذهب إلى تسالونيكي،… ، لوقا وحده معي» (٢
تيموثاوس ٤: ١٠). نحن نعرف الكثير حول سيرة حياة القدّيس لوقا بالطبع، لكنّنا لا نسمع كلمة أخرى
عن ديماس، ولا تدفعنا هذه الإشارة الأخيرة «إذ أحبّ العالم الحاضر» إلى أن نأمل كثيرًا من جهته.
كان لديماس فرصته، إذا جاز التعبير، لو لم يحبّ هذا «العالم الحاضر» حرفيًّا، «الدهر الحالي»! فثمّة
أسباب تدفعنا إلى الشكّ، في أنّه كان سيتمّ تكريمه عبر التاريخ المسيحيّ باعتباره «القدّيس ديماس»،
وسيُخصّص له، مثل لوقا، يوم عيد في التقويم الكنسيّ. فما الذي حصل إذًا؟
قيل لنا إنّ ديماس أحبّ «العالم الحاضر». وهذا يعني أنّه خلال كلّ وقت خدمته، وحتّى مشاركته إلى
حدّ ما في مشقّات القدّيس بولس الرسوليّة، ظلّ ديماس في جذوره رجلًا دنيويًّا. وصفَ مرقس، وهو
صديق آخر له، أُناسًا من هذا النوع، حيث «هموم هذا العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الأشياء تدخل
وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر» مرقس ٤: ١٩). بالتأكيد لم يكن الأمر أنّ ديماس، ببساطة، رفيق القدّيس
بولس العامل معه، لم يتمّ تحذيره قطّ بشأن «الاهتمامات الدنيويّة». هل من الممكن الاعتقاد بأنّه لم يسمع
بولس يحذّر من قبل، «لا تشاكلوا هذا الدهر» (رومية ١٢: ٢)؟ كيف يمكن لأيّ رفيق للرسول بولس
أن يجهل مخاطر «العالم» أو «الدهر الحاضر» (كورنثوس الأولى ١: ٢٠؛ ٢: ٦، ٨؛ ٣: ١٨؛
كورنثوس الثانية ٤: ٤؛ غلاطية ١: ٤؛ أفسس ١: ٢١؛ ٦: ١٢؛ تيطس ٢: ١٢). ألم تكن هذه النظرة
التشاؤميّة بشأن «العالم» من «سِمات» الرسول بولس؟
رغم أنّ الرسول يوحنّا لا يستخدم تعبير بولس للتحدّث عن «العالم»، إلّا أنّه غالبًا ما يستخدم تعبير
«كوزموس»، بالمعنى الأخلاقيّ ذاته تقريبًا، أي العالم باعتباره «الخليقة في حالة التمرّد ضدّ الله».
كان هذا هو «العالم» الذي رفض يسوع أن يصلّي من أجله (يوحنّا ١٧: ٩)، «العالم» الذي منه دعا
الربّ تلاميذه حتّى لا يعودوا ينتموا إليه (١٧: ٦، ١١)، «العالم» الذي يبغض ربّهم و«العالم» الذي
يكرههم (١٥: ١٨-١٩؛ ١٧: ١٤؛ ١ يوحنّا ٣: ١، ١٣؛ ٤: ١٧).
كان فشل ديماس، أنّه «أحبّ» العالم. من اللافت للنظر، أن بولس يستخدم التعبير ذاته، فعل المحبّة
(أغابّي)، في إشارته إلى محبّة ديماس للعالم، الذي يشير بالعادة إلى محبّة الله للبشر، ومحبّة البشر لله،
ومحبّتهم لبعضهم البعض في الله. ومع ذلك، على غرابة الأمر، فإن هذا هو الفعل عينه الذي استخدمه
القدّيس يوحنّا عندما حذّر المسيحيّين، «لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم» (١ يوحنّا ٢: ١٥.
يُلقي سياق هذا المقطع ضوءًا مفيدًا على مأساة ديماس، لأنّ يوحنّا يتابع التعليق، «إن أحبّ أحد العالم
فليست فيه محبّة الآب». أي، العالم لا يعرف الله ولا يستطيع أن يقبل الروح القدس (يوحنّا ١٤: ١٧).
لدينا إذًا، هوّة مطلقة بين «العالم» والآب. نشكّ في أنّ ديماس لم ير ذلك على الفور، لأنّ الرجل لم ينتقل
فجأة من الإخلاص التامّ إلى فقدان الإيمان التامّ. في بعض الأحيان، تتكشّف حقيقة هوى القلب تدريجيًّا.
لذا في النهاية، وربّما بعد سنوات من المساومة، توصّل ديماس نفسه ليرى أنّ الله والعالم يشكّلان طرفا
نقيض، لأنّ «كلّ ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظّم المعيشة، ليس من الآب بل من
العالم» (يوحنّا الأولى ٢: ١٦). لا يمكن للمرء أن يظلّ مشدودًا بين كلا النقيضين إلى الأبد.
في مواجهة هذا الوضع، كان لا بدّ من خيار جَذريّ، مع أو ضدّ. حسم ديماس خياره.