...

أزمَةُ موسى ووَعدُ الله

 

 

«الآنَ هَلُمَّ فَارْسِلُكَ الَى فِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي اسْرَائِيلَ مِنْ مِصرَ» (خروج ٣: ١٠). فجأةً صار
كلامُ الربّ لموسى رسالةَ خلاصٍ مِنَ الله، رسالة غير واقعيَّة لأنَّها تُخْرِج الشَعب مِن ثباتٍ إلى مَجهول.
أَرضٌ وُعِدَ بِها، لكِنَّها غير منظورة أو معروفَة مِنْه. هذا الخُروج هو انسِلاخٌ عن عادات وتقاليد ونوع
راحةٍ استقرَّ على أساسِها الشعبُ في مِصر. هو لم يَكُن مِصريًّا، ولكنَّه بعد سكنه في تلك الدّيار تَبَنّى
عاداتها، وشَرِبَ من مياهِها، وخالَطَ شَعبها، وفقد بالتدرّج حرّيَّتَه، إلّا أنَّهُ اعتاد ذلك…
لا يُريدُنا الرَبُّ أن نَبيت في أرضِ غُربَةٍ، هو يَدعونا دومًا لنَمكُث معه، ونَستريح في حَضرته، ونَجِد
مرعًى (يوحنا ١٠: ٩) تأتينا منه التعزية الحقيقيّة، أينَما حَلَلْنا. نحن نسكُن الأرض، نحن في العالم ولسنا
من العالم. نتَماهى مع المكان الذي نَبني، مع المكان حيث نَعمَل، مع البيئةِ التي تَستقبِلُنا، ولكنّنا لا نَنسى
أنّنا أهلُ بيتِ الله (أفسس ٢: ١٩).
أزمةُ موسى إذًا كانَت على أكثر من مستوى: أوّلًا أن يُقنِع الشعب بتَركِ مصرَ والخروجِ إلى أرضِ
الربّ. ثانيًا أن يَدعو فرعونَ كي يُعتِقَ شَعب الله من العبوديّة. ولكن، الأصعب كان أن يتبنّى هو نفسه
هذه الرسالة، وهذا العُبور من العبوديّة إلى الحرّيّة. نشأ موسى في دار فرعون، ابنة فرعون بذاتها كانت
قد تَبَنَّته (خروج ٢: ١٠)، شوقه إذًا لم يكن إلى المادّة أو إلى السُلطَة، إنّما إلى حياةٍ أسمى.
نَعلم أن أزمة موسى لم تكن فقط كيانيّة وجوديّة، بل أيضًا جَسديّة، فقد كان ثَقِيل الفَمِ وَاللّسَان (خروج ٤:
١٠)، يتلعثم بالكلام. أرسَل الربّ هارونَ عضدًا له، مُساعدًا له في مَهامه، وواعدًا بأن «أكُونُ مَعَ فَمِكَ
وَأعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (خروج ٤: ١٢). لن يتركه وحيدًا، هذا ما يفعل السيّد دائمًا مع مُبشّريه، مع
تلاميذه، مع أحبّته.
الربّ أمينٌ، يُنير الطريق (خروج ١٣: ٢١)، يُرشد المؤمن، يُعزّي الضعيف، يُشدّده ويطعمه طعامًا
سماويًّا (خروج ١٦: ٤). هذا ما نقرأ في سفر الخروج؛ فالله أرسل آياتٍ من السماءِ وعلاماتٍ لتُقنع
فِرعَون، وتُقوّي إرادة الشَّعب وعزمه، وتاليًا تساعده على تَرك ما هو معلوم منه وتقبُّل ما هو معلومٌ من
الله، هذا فعل إيمانٍ كبير، تحوّل قبل التحوّل. فالقبول هو نصف الطريق، والرضى هو من التواضع،
وأمّا الطاعةُ فهي فعل محبّة، الشعب يحبّ الله كما أنّ الله يحبّ شعبه.
العبور يذكّرنا دائمًا بالقيامة، المسيح تواضع آخذًا صورةَ عبدٍ (فيليبّي ٢: ٩)، أطاع حتّى الموت، الموت
على الصليب. فملكوت السماوات هو للودعاء، للمساكين بالرّوح (متى ٥: ٣)، للّذين يُميّزون عطيّة اللّه
ونعمته في قلب المحنة… هكذا نقرأ في سفر الخروج عن التعزيات: ففي العطش أرسل الله المياه حين
شقّ الصخرة، وفي الخوف شقّ البحر، وفي الجوع شقّ السماء فنزل المنّ والسلوى. الربّ رافق شعبه
على مدار الساعة، ولم يتركه في ضيقته لا ليلًا ولا نهارًا.

حين يترك الشعبُ اللهَ يدخُل في غربةٍ، يتغرّب عن ربّه، وتاليًا عن قريبه، وحتّى عن ذاته. محنة الشعب
ليست الصحراء أو الخروج أو العراء، إنّما هي عدم تقبّله مشيئة الله، ولا وصاياه، ولا شريعته.  نحن
نؤمن بأنّ قُربنا من الله يقرّبنا من الآخر، يدفعنا إلى مساعدته والالتزام به، ذلك بأنّ محبّتنا لله تُولّد فينا
محبّة القريب، تحرّك أحشاءنا لنَرحم الآخر. عضد الله لنا يدفعنا إلى مُساعدة الأخ المحتاج، والتكاتف
يبني البشريّة والأمم.
نستشفّ من الكتاب المقدّس أنّ محنة موسى لم تكن في قيادة الشعب خارج مصر ورعايته، بل في إبقاء
الصِّلة مع الله عنده حيّة. محنة موسى تكمن في قساوة قلب الشعب وتغرّبه عن الخالق، محنة موسى
تعكس عدم الإيمان بأنّ القلب الخاشع والمتواضع لا يرذله الله

 

 

 

 

 

 

 

أزمَةُ موسى ووَعدُ الله