...

كلمة الراعي الرافعة من الفضل والفضيلة إلى البنوّة الإلهيّة

 

 

السير في إثر الربّ يشبه السباحة عكس التيّار. فسلوك الإنسان وذهنيّته انطبعا بغربة العالم عن الإله
الحيّ ومعرفته وعبادته، وقبول قصده من أجل خير الإنسان. لكنّ هذه الغربة لم تمحُ بالكلّيّة من الإنسان
صورة الله فيه، بل بقي سراجها مشتعلًا، وإن خافت الضياء. فالسير في إثر يسوع يعني أن يصير المرء
نورًا للعالم كلّه، وليس مجرّد فتيل مشتعل قليل الضياء. يساعدنا يسوع، بطرحه مبدأ القاعدة الذهبيّة في
المعاملة، على تحقيق هذا الانتقال النوعيّ والكيانيّ عندما أوصانا: «كما تريدون أن يفعل الناس بكم
افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا» (لوقا ٦: ٣١).
صورة الفتيل المشتعل نعثر عليها في توصيف يسوع لواقع الإنسان الخاطئ. فقد ميّز في سلوكنا ما هو
صالح والذي ينطوي على مبدأ المبادلة أو المعاملة بالمثل والتي تعود علينا بالمنفعة، وذلك في حديثه عن
محبّة مَن يحبّنا، أو مساعدة مَن يساعدنا، أو الإحسان إلى مَن يحسن إلينا (متّى ٦: ٣٢ و٣٣). فهذا
السلوك، وإن كانت فيه بذور محبّة، إلّا أنّها محبّة مخصّصة لفئة دون سواها، ومبنيّة على اعتبارات غير
مجّانيّة. إنّها محبّة منقوصة، لأنّها مشوبة بدرجة من الأنانيّة وتطلب ما لذاتها. أَليس هذا ما لاحظه أيضًا
يسوع في سلوك مَن يقرض لكنّه يتوخّى استرداد ما أقرضه (متّى ٦: ٣٤)؟
لم يستهجن يسوع مثل هذا السلوك، لكنّنا فهمنا من سياق النصّ أنّه لا يفي مقتضيات المحبّة التي يدعونا
إليها حقّها. ربّ قائل إنّها أرضيّة الحدّ الأدنى، أو أرضيّة الإنسان الخاطئ، كما أشار يسوع إلى هذا
الأمر بتكراره عبارة: «فإنّ الخطأة أيضًا يفعلون ذلك…» (لوقا ٦: ٣٢ و٣٣ و٣٤). فقد أراد يسوع
بذلك أن يوجّه ذهننا وقلبنا إلى اشتهاء المحبّة الإلهيّة، تلك المحبّة التي أشرق نورها في العالم بيسوع
المسيح وبالذين أخلصوا له في اتّباعهم إيّاه وتتلمذهم على إنجيله.
في سبيل أن يشرق هذا النور في العالم، يضع يسوع رافعة تنقلنا من ذهنيّة «الخطأة» وسلوكيّتهم إلى
تلك التي نتعرّف إليها في مَن تجدّدوا بالمسيح عبر تجديد ذهنيّتهم وتبديل سلوكهم. فأن تكون ذا فضل
على أحد، فهذا أمر من طبيعة الحال بفعل العلاقات العائليّة والاجتماعيّة وغيرها التي تجمع الواحد
بالآخر. ولكن أن تكون ذا فضيلة فهذا يعني نموًّا روحيًّا، وليس فقط اجتماعيًّا. لقد وضع يسوع في
متناولنا، في حديثه عن مبدأ القاعدة الذهبيّة في المعاملة، رافعة لتنقلنا من الحالة الأولى إلى الحالة
الثانية، فلا نبقى ذوي فضل أو من المفضِلين، بل نصير ذوي فضيلة أو من الفاضلين.
كيف يمكن أن تعمل هذه الرافعة: «كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا»؟ لا بدّ
من أن يكون لها نقطة ارتكاز، ذراع رافعة، ويد أو قوّة ضاغطة. نقطة الارتكاز هي تجسيد يسوع لهذه

الوصيّة الإلهيّة في معاملته معنا، فقد عاملنا كما يريدنا أن نعامله. هذا ندركه سريعًا بفضل مراجعة
بسيطة للإنجيل. أمّا الذراع الرافعة فهي النعمة الإلهيّة التي تنير علينا كيف نرفع إلى عَلو إخوتنا في
الإيمان وأترابنا في الإنسانيّة على شاكلة رفع يسوع إيّانا. أمّا القوّة الضاغطة فهي ما اكتشفناه في وجه
يسوع من محبة للإنسان ولكلّ منّا بشكل خاصّ، إذ بممارستنا هذا النوع من المحبّة يمكن لهذه الرافعة
أن تصيب الغرض من وجودها. إليكم العلو الذي رفعنا إليه الربّ: «أحبّوا … وتكونوا بني العليّ» (لوقا
٦: ٣٥). إنّها البنوّة الإلهيّة التي يريد أن تصير نصيب كلّ إنسان.
بادرْ إذًا إلى فعل المحبّة ولا تنتظرها أو تستجديها أو تترجّاها. فالإنسان الفاضل يأتي من الإيمان، ولا
يشعر أنّه أفضلَ على أحد، بل قام بما يمليه عليه الإيمان بيسوع. لا يعي أنّه ذو فضل، ولا حتّى أنّه
صاحب فضيلة. فقد اتّبع في عمل المحبّة ما أوصى به الإنجيل من أن ينسى الأعمال الحسنة التي يقوم
بها، فلا يفتكر بها أو يتبجّح بها: «فمتى صنعتَ صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك» (متّى ٦: ٣).
وإذا ما حصد المذلّة أو المهانة عوضًا من الشكر والامتنان، استضاء قلبه بالوصيّة التي تحوّل طاقته
الغضبيّة إلى طاقة محبّة ورباطة جأش وامتصاص للشرّ: «لا تقاوموا الشرّ، بل مَن لطمك على خدّك
الأيمن فحوّلْ له الآخر أيضًا» (متّى ٥: ٣٩). أمّا متى شعر بأنّه أحسن القيام بالواجب وتفاخر بذلك،
اتّضع في ذاته قائلًا: «إنّنا عبيد بطّالون، لأنّنا إنّما عملنا ما كان يجب علينا» (لوقا ١٧: ١٠).
لقد امتهن الرسل عمل هذه الرافعة فعملوا وعلّموا كما أوصاهم المعلّم. ومنذ ذلك الحين وعمل هذه
الرافعة جعل الحياة البشريّة أكثر احتمالًا وأكثر إنسانيّة. بفضلها برزت إلى الوجود هامات من القدّيسين
والمعلّمين والرعاة والمربّين، الفاضلين والمفضِلين علينا بآن. هؤلاء جسّدوا أمامنا، بتوبتهم المستمرّة
من صورة الفضل إلى الفضيلة، أيقونة «الآب الرحيم» بمحبّتهم للأعداء وإحسانهم إلى «الشاكرين
والأشرار» كما أوصانا يسوع بأن نفعل (لوقا ٦: ٣٦ و٣٥). أَلا يحسن بنا اليوم أن نقدّم الشكر لله ولـمَن
صاروا أبناء العليّ بالفعل، وأن نتمثّل بهم على قدر المستطاع؟ هيّا نشجّع بعضنا بعضًا على استخدام
هذه الرافعة فهي ترفعنا بينما نرفع بها سوانا.

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
 

الرسالة: ٢كورنثوس ٦: ١٦-١٨ و٧: ١
يا إخوة أنتم هيكل الله الحيّ كما قال الله: إنّي سأسكُن فيهم وأَسيرُ في ما بينهم وأكون لهم إلهًـا ويكونون
لي شعبًا. فلذلك اخرجوا من بينهم واعتزلوا يقول الربّ ولا تمسّوا نجسًا، فأَقبلكم وأَكون لكم أبًا وتكونون
أنتم لي بنين وبناتٍ يقول الربّ القدير. وإذ لنا هذه المواعد أيّها الأحبّاء فلنُطهِّر أنفسنا من كلّ أدناس
الجسد والروح ونُكمل القداسة بمخافة الله.
 
الإنجيل: لوقا ٦: ٣١-٣٦
قال الربّ: كما تريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا أنتم بهم فإنّكم إن أحببتم الذين يُحبّونكم فأيّة منّة
لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا يُحبّون الذين يُحبّونهم. واذا أحسنتم إلى الذين يُحسنون إليكم فأيّة منّة لكم؟ فإنّ
الخطأة أيضًا هكذا يصنعون. وإن أَقرضتم الذين ترجون أن تستوفُوا منهم فأيّة منّة لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا
يُقرضون الخطأة لكي يستوفوا منهم المثل. ولكن أَحبّوا أعداءكم وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا
فيكون أجركم كثيرًا وتكونوا بني العليّ. فإنّه مُنعم على غير الشاكرين والأشرار. فكونوا رُحماء كما أنّ
أباكم هو رحيم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي
الرافعة من الفضل والفضيلة
إلى البنوّة الإلهيّة