مرّة واحدة خفض الربّ نظره إلى أسفل، حينما خطّ كلمات على الأرض بينما كان اليهود يدينون امرأة أمسكوها بالزنى (يوحنّا ٨: ٦). إنّها الحركة الأكثر دلالة على جوهر تجسّده: فالله «لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلِّص به العالم» (يوحنّا ٣: ١٧). خفض نظره أمام الخاطئة وأمام قضاتها، وأمام الإنسان عمومًا، دون أن يدين أحدًا.
هكذا ينظر إلينا «الذي نزل من السماء». هو وحده الأمين بامتياز أن يترجم مشيئة أبيه السماويّ وأن يعبّر عنها ويجسّدها بيننا خير تجسيد. فلا يسعه أحد أن يعرف حقًّا قصد الله، حتّى ولو «صعد إلى السماء»، إلّا الذي أرسله الله، أي «ابن الإنسان الذي هو في السماء» و«الذي نزل من السماء» (يوحنّا ٣: ١٣). هوذا يسوع يُدخلنا، في الإنجيل الذي نقرأه في الأحد قبل عيد رفع الصليب، إلى فكر الله وكيف ينظر إلى الإنسان، تلك النظرة الوحيدة القادرة على أن تبثّ فيه الحياة عوض الموت، والكرامة عوض الذلّ، والشهامة عوض الدناءة، والبذل عوض الأنانيّة!
نزل يسوع من السماء لكي يعرّف الإنسان بمحبّة الله له ونظرته إليه واعتباره إيّاه كريمًا من كرامة ابنه الوحيد. وهل من طريقة أفضل ليفقه الإنسان هذه المحبّة إلّا إذا ضحّى المحبّ بحياته من أجل أن يحيا المحبوب؟ لقد اتّخذ يسوع من رفع موسى للحيّة في البريّة، حينما كان العبرانيّون ينظرون إلى الحيّة النحاسيّة ليُشفوا من سمّ الأفاعي في البريّة، صورة ليطبّقها على نفسه وعلى رسالته، بحيث يكون ارتفاع يسوع على الصليب فرصتنا لنشفى من الموت بمحبّة الله التي تجلّت بأجلى بهاء بموت يسوع (يوحنّا ٣: ١٤).
ربّ قائل: ماذا ينفعنا أن نتأمّل بالمصلوب عنّا، إذا كان المطلوب منّا أن نتأمّله كما فعل العبرانيّون قديمًا مع الحيّة النحاسيّة؟ لقد أعطانا يسوع صورة ارتفاعه هذه على الصليب لكي تنقذنا من شكّنا في محبّة الله لنا، أو من استخفافنا بعمل الربّ من أجلنا، أو إهمالنا للقصد الإلهيّ الخلاصيّ عبر آلامه وموته وقيامته. لقد أبرزت الكنيسة قول الربّ هذا في تقليدها الليتورجيّ وتراثها الإيقونغرافيّ عندما وضعت أمامنا خدمة الختَن في الأسبوع العظيم، وأعطتنا أيقونة الختن-العريس، أي يسوع لابسًا إكليل الشوك وحاملًا قصبة ومرتديًا الرداء الملوكيّ، لتكون صورة العرس يجمع بينه وبيننا، إن تلقّفنا محبّته وتأمّلنا بها وشكرناه عليها وتجاوبنا معها، بالعمق وحقيقةً، في حياتنا اليوميّة.
فهل يكون ما يقدّمه إلينا يسوع، وبالتالي الكنيسة، أن يتحوّل فرصة نتبنّى فيها نظرته إلينا، فنعمّد نظراتنا إلى حياتنا وأحداثها وشجونها بنظرات المرتفع على الصليب والمتّجهة حبًّا إلينا؟ الحريّ بتأمّلنا بالمصلوب أن يحمي عقلنا من الأفكار المشكّكة بالله وبقدرته وعنايته، ويصون قلبنا من البرودة والجفاف، وينقّي عزمنا من إخفاق وتردّد وخوف.
لقد وضع يسوعُ الإنسانَ نصب عينَيه وأراد أن ينقذه من الهلاك. إنّها كلماته التي سمعها من الآب وأنفذها إلينا، كوكيل أمين على وكالته، ورسول جدير برسالته، وابن وحيد للآب. إليك كيف يعبّر عن هذه الحقيقة: «هكذا أَحَبَّ اللهُ العالمَ حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة» (يوحنّا ٣: ١٦). إنّها الحقيقة التي تصطدم اليوم بعمى الإنسان وجهله، وجفاء قلبه وكبرياء عقله! إنّه الهلاك الذي لا يمكن الشفاء منه سوى بأن نتأمّل بالمصلوب ومحبّته وعنايته اليوميّة بنا. عمانا وعمى إخوتنا وأترابنا يشكّل الحافز الدائم لعطيّة يسوع الدائمة، إلى أن يكسر فينا الحاجز الذي يمنع من أن يسكب محبّته ونعمته فينا.
متى انكسرت نفوسنا وتخشّعت أمام محبّة الله، ساعتها لن تغادرنا الثقة بالله والرجاء به والاتّكال عليه، ولن نصير مشاعًا يلقي فيه كلّ عابر سبيل أفكاره السوداء، أو كلّ متفلسف تفاسيره العقلانيّة للأحداث، ولا يقودنا أعمى معه إلى الحفرة (متّى ١٥: ١٤). على العكس، سنتدّرب يوميًّا على شكر الله والبحث في كلّ أمر أن نُظهِر امتناننا له، ومتى أخطأنا، طلبنا الغفران لأنفسنا ومنحناه لإخوتنا. هكذا يصير مرأى الصليب أمامنا محرِّكًا لنبل يحييه يسوع فينا، ومناسبة لرسالة يحمّلنا إيّاها ونعكسها بشهادتنا الحيّة بين أترابنا: أنّ يسوع ضحّى بنفسه من أجل حياة الإنسان، كلّ إنسان، وهو يحبّنا ويسهر على خلاصنا، وأنّه معطٍ المؤمنين به حقًّا شركة أبديّة معه لا تنفصم عراها.
بات إكليل الشوك الذي يعلو رأس المرفوع على الصليب رمزًا لطوق النجاة الذي يرميه يسوع إلينا. هلّا تأمّلنا في هذه العطيّة وكسرنا بها كلّ طوق نجاة آخر يُعرَض علينا؟ هلّا جاهدنا لأن تبقى العطيّة مجّانيّة فلا نقايضها إن أُعطِيناها، ولا نحتكرها إن وجدناها، ولا نتعظّم إن أدركنا ثمنها؟ هلّا تواضعنا أمام المعطي وأمام مَن يحتاجها؟ أَليس هذا هو ثمنها منّا؟ فما من منّة لأحد على آخر، لأنّ المصلوب علَّمنا أن نسكب أنفسنا خدمةً وصلاةً من أجل مَن يرسلنا إليهم لكي لا يهلك أحد بل يخلصون به دومًا.
+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: غلاطية ٦: ١١-١٨
يا إخوة، انظروا ما أعظم الكتابات التي كتبتُها اليكم بيدي. ان كل الذين يريدون ان يُرضُوا بحسب الجسد يُلزمونكم ان تَختتنوا، وانما ذلك لئلا يُضطهدوا من أجل صليب المسيح، لأن الذين يختتنون هم أنفسهم لا يحفظون الناموس بل انما يريدون ان تختتنوا ليفتخروا بأجسادكم. اما أنا فحاشى لي ان أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلِب العالم لي وأنا صُلبت للعالم؛ لأنه في المسيح يسوع ليس الختان بشيء ولا القلف بل الخليقة الجديدة. وكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون فعليهم سلام ورحمة، وعلى اسرائيلِ اللهِ. فلا يجلبْ عليَّ أحدٌ أتعابًا في ما بعد فإني حامل في جسدي سِماتِ الرب يسوع. نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم أيها الإخوة، آمين.
الإنجيل: يوحنا ٣: ١٣-١٧
قال الرب: لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابنُ البشر الذي هو في السماء. وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي ان يُرفع ابن البشر لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه هكذا أَحَبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فإنه لم يرسِل اللهُ ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم بل ليخلِّص به العالم.