بحسب الكتاب المقدّس، ينطوي نصيب شعب الله الحقيقي في هذا العالم على قدر كبير من الحزن من قِبَلِ أولئك الذين يشعرون بالضّيق من «فكر الله» أو حتّى من المستائين من مجرّد التذكّر العرضيّ «لحقوق الله». غالبًا ما يكون الاضطهاد سببه «حياة التقوى في المسيح يسوع» (٢تيموثاوس ٣: ١٢).
يتحدّث المزمور ١٢٨ عن تاريخ هذا الاضطهـاد، وبالمقابل، عن خلاص الربّ المستمر لشعبه إسرائيل في مواجهة هذا القهر: «كثيرًا ما قاتـلوني منذ شبابي» ليقُل الآن إسرائيل، «كثيرًا ما قاتلوني منذ شبابي، ولم يقدروا عليّ. على ظهري من الوراء تآمر الخطأة وطالت مؤامراتهم. الرب صِدِّيقٌ يقطع أعناق الخاطئين».
يصف المزمور هذا الاضطهاد بالـ«حرب»، فيقول: «كثيرًا ما قاتلوني». الفعل المستعمل «قاتلوني»، في اللغة الأصلية (الترجمة السبعينيّة)، مشتقّ من فعل «المناظرة» أو «المجادلة». تُثير الحياة في خدمة الله، كوننا نعيش في عالم ساقط، هذا القدر من «الجدليّة». يومًا بعد يوم، كلّما أتيحت لنا الفرصة للتأمّل في صفحات كتاب المزامير، كلّما تأكّد لنا أنّه كتاب صلاة المحاربين، المجاهدين.
متى بدأ هذا الاضطهاد؟ «منذُ شبابي». يبدو أنّه يعود الى «بدايات» التجربة، إلى زمن قديم، من ذاكرة إسرائيل. ربّما يمكن التفكير في الاضطهاد المبكّر من المصريّين (خروج ١: ١٤)، أو الموآبيّين (قضاة ٣: ١٤)، أو الكنعانيّين (٤: ٣)، أو المِديانيّين (٦: ٦)، أو العمّونيين (١٠: ٩؛ و١صموئيل ١١: ٢)، الخ…، لكنَّ الاضطهاد ضدّ الأبرار يعود إلى أبعد من ذلك. يبدو أنّ «منذُ شبابي»، تشمل البدايات الأوّليّة، منذ قتلِ هابيلَ الصدّيق (تكوين ٤: ٨)، الذي قِيلَ فيه أنّه «قدّم لله ذبيحة أفضل من قايين. فبه شُهِدَ لهُ أنَّهُ بارٌ، إذ شَهِدَ الله لقرابينه» (عبرانيين ١١: ٤). في الواقع، يبدو أنّ المسيح الربّ اتّخذ «منذُ شبابي» ليبدأ من هذه النقطة بعينها، لذلك هو تكلّم على «كلّ دم زكي سُفكَ على الأرض، من دمِ هابيل الصدّيق إلى دم زكريّا بن برخيا» (متى ٢٣: ٣٥). وفي السّياق عينه، سبق أيضًا وتنبَّأ الربّ بأنّ هذا الاضطهاد، هذا «الجدل» الذي لا هوادة فيه، سيستمر في التّصاعد إذ: «أُرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى مدينة» (٢٣: ٣٤).
على الرغم من كلّ هذا الاضطهاد، يؤكّد المزمور: «لم يقدروا عليّ». في الواقع، لا يمكنهم أن ينتصروا، لذلك يؤكّد بولس أنّ: «اضطهاداتي، وآلامي، مثـل ما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولستـرة. أيّة اضطهادات احتملتُ! ومن الجميع أَنقذني الربّ» (٢تيموثاوس ٣: ١١). لذا نتشجّع نحن، من خلال الاتّكال على هذه التجربة المتكرّرة لخلاص الله، لكوننا: «مكتئبين في كلّ شيء، لكن غير متضايقين. متحيّرين، لكن غير يائسين. مُضطَهَدين، لكن غير متروكين. مطروحين، لكن غير هالكين» (٢كورنثوس ٤: ٨-٩).
ينتهي المزمور الى إطلاق «دعاء لعنة» ثلاثيّـة ضدّ المضطَهِد، ربما تكون واحدة من أكثر المقاطع الشعريّـة تهكّمًا في مجمل كتاب المزامير. يُقارَن فيها الخطأة بـ «عُشب السُّطوح الترابيّة، الذي ييبسُ قبلَ أن يُقلَع»، ولكن عوض المرور على ذكر هذا التعبير المجازيّ، يتوقّف المزمور، كأنّه لبرهة، ليسمح لنا بالتأمّل بشكل أعمق في معاني هذا الأمر. هذا «العشب اليابس»، كما يتّضح لنا، لا يجد طريقه أبدًا الى «غلّة الحصاد». لن يَجمعه حاصد. لن يتمّ تجميعـه أو حزمـه وتوضيبـه أبدًا، ولهذا السّبب لن يصير أبدًا مناسبة «للبرَكة» التقليديّـة التي يتبادلها العمّال في وقت الحصاد (راجع راعوث ٢: ٤). هذا مقطع شعريّ رائع حقًا، يتطـرّق إلى مختلف البركات التي «لن تأتي أبدًا»! هذه هي هزيمة الخطأة الأبديّة، الذين شنّوا الحرب على إسرائيل «منذُ شبابي». اللعنات سلبية تمامًا. كراهية المضطهِدين لصهيون المقدّسة تؤدّي إلى فقدان البَرَكة التي لا يجب أن تضيع أبدًا.
تذبل جذور المضطهِدِين الضحلة. لذا لن يكون لها حَصَاد. يؤول بها المصير مثل «عُشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غدًا في التنّور» (متى ٦: ٣٠). لن يُسمع صوت البَركة من أجلها من جديد: «ليخز كلّ الذين يُبغـضون صهيون، وليرتدّوا الى الوراء. وليكونوا مثل عُشب السُطوح، الذي يَيبسُ قبلَ أن يُقلَع، الذي لا يملأُ الحاصد كفَّهُ منهُ ولا حازم الحزَم حضنهُ، ولم يقُلْ المّارون به، بركةُ الربّ عليكم، باركناكم باسم الربّ».