...

قطع رأس يوحنّا

 

 

في ٢٩ آب نقيم عيد قطع رأس يوحنّا المعمدان الواردة روايته في الأناجيل الإزائيّة (الثلاثة الأولى). وهو يوم صوم كامل نلتصق فيه باستشهاد «أعظم مواليد النساء». وفي الحادثة هذه تطهير لنا واستنارة لأنّها تحمل إلينا الشجاعة الحادّة التي تحلّى بها مَن كان سابقًا للسيّد وصابغًا. وسبب ميتته أنّ هيرودس أنتيباس، ابن هيرودس الكبير والمُسمّى «أمير الربع» أعني الجليل وعبر الأردنّ، قتل بسبب من شهوته النبيّ العظيم لأنّه لم يطقْ توبيخه «بسبب ما عمل (الأمير) من السيّئات» (لوقا ٣: ١٩).

كان الرجل قد تزوّج بهيروديّا امرأة أخيه فيليبّس، وذلك حسب رواية مرقس (٦: ١٧)، وكان يوحنّا يقول له: «لا يحلّ لك ان تأخذ امرأة أخيك». أين هي المخالفة؟ طبعًا، ما كان ممكنًا أن يتّخذها زوجة له لو كان زوجها فيليبّس حيًّا. هذا لا يكون زواجًا. نحن أمام فرضيّتين فإمّا أن تكون مطلّقة أو أن تكون أرملة. فلو كانت مطلّقة لكان زواجها الثاني غير شرعيّ. فقد جاء في الناموس: «وعورة زوجة أخيك لا تكشف…. إنّها فاحشة» (لاويّين ١٨: ١٦ و١٧). وإذا كانت أرملة فالزواج مخالف للناموس إذ كان لها ولد (سالومة). فموسى يقضي بشريعة أخي الزوج: «إذا أقام أخوان معًا، ثمّ مات أحدهما وليس له ابن، فلا تصير امرأة الميت إلى خارج، لرجل غريب، بل أخو رجلها يدخل عليها ويتّخذها امرأة له» (تثنية الاشتراع ٢٥: ٥). هذه الشريعة لا تنطبق هنا وفي هذه الحالة نحن أمام فاحشة أي الزواج المحرّم بين الأقارب.

البيت كلّه فاسق. هيرودس أنتيباس يطلّق امرأته الأولى ابنة الحارث ملك الأنباط، ليتمكّن من زواج غير شرعيّ. ابنة هيروديّا سالومة تزوّجت زوج أمّها فيليبّس. هيروديّا لا تتحمّل صوت الأنبياء، فدخل الانتقام إلى قلبها وأرادت قتل النبيّ. كلمته كانت تقضّ مضجعها. حتّى تعشق كان يجب أن يموت. أمّا الملك فكان يهاب يوحنّا «لعلمه أنّه رجل بارّ قدّيس وكان يحميه». الحاكم يدغدغه الإصغاء إلى الأحاديث الدينيّة ويُعجب بكبار الحياة الروحيّة، ولكنّه يقف عند الأماني وما كان له هذا الصدق الداخليّ الذي يجعله يلتزم التزام حياة. تزعجه الشريعة. الدين عنده شيء جميل يتغنّى به ويبقى عند التغنّي.

صدمه يوحنّا صدمة كبيرة ولكنّها لم تُحدِث فيه تحوّلًا. هذا هو سرّ الإثم واستمرارنا في الإثم حتّى يجيء يوم موافق لارتكاب الجريمة. لقد أقام الأمير ذكرى لمولده كما كان الوثنيّون يفعلون فدعا إلى مأدبة الأشراف والقواد وأعيان الجليل. والمأدبة تخمة وسكر فدخلت ابنة هيروديّا ورقصت. والصبيّة خليعة كأمّها فأعجبت هيرودس حتّى الدوار فقال لها الملك: «اطلبي منّي ما شئت أعطِك». وأقسم لها: «لأعطيك كلّ ما تطلبين منّي ولو نصف مملكتي». والصبيّة ابنة أخيه تغنج أمامه وتنثني. نحن إذًا مع فاحشة ثانية. فخرجت الفتاة وسألت أمّها: «ماذا أطلب؟» فقالت: «رأس يوحنّا المعمدان». ما كان الأمير ينتظر كلّ ذلك فاغتمّ ولكنّه من أجل القَسَم ومراعاة لجلسائه لم يشأ أن يردّ طلبها. الشراهة والخمر والفسق اجتمعت لقتل النبيّ. لهذا أرسل حاجبًا إلى سجن القدّيس فقطع رأسه وأتى تلاميذ يوحنّا فحملوا الجثّة ودفنوها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قطع رأس يوحنّا