الإنسان محاصر من جهات متعدّدة، داخليّة وخارجيّة. تحاصره الخطيئة، يحاصره ما يرده من الحوا، سّما تولّده لديه الأفكار، ما يضغطه من أحداث أو ضيقات أو شدائد. ربّ قائل إنّه محاصر لأنّه موجود، إذ يبدو الوجود على الأرض سجنًا كبيرًا للإنسان. أَلم يختبر العالم بأسره شيئًا من هذا القبيل بفعل الحجر الصحّيّ الذي فُرض عليه من أجل درء انتشار جائحة الكورونا؟
يحدّثنا النصّ الإنجيليّ عن «حصار» عاشه أعميان وأخرس. فقدان أحد الحواسّ، كالنظر أو النطق، يشكّل حصارًا يرسم حدودًا للإنسان في الحركة والتعبير، وممارسة الحرّيّة الطبيعيّة التي يعيشها مَن يملكون هذه الحواسّ. لقد فكّ يسوع الحصار عن هؤلاء بشفائهم من علّتهم بمنحه البصر للأعميَين والنطق للأخرس.
في حالة الأوّلَين، أسرعا إليه لـمّا سمعا الجلبة التي أحدثها مرور يسوع والجمع الذي يرافقه أو يزحمه عادة. يدهشنا كيف أنّهما أسرعا إليه وهما فاقدا النظر! كانت الحاجة دليلهما وعكّازهما! تبعاه، صرخا في أثره، نادياه باسم ابن داود، طلبا إليه أن يرحمهما. لكنّ وقت اللقاء به كان في البيت، بعيدًا عن الجلبة وأنظار المتطفّلين. أدخلهما يسوع في خلوة معه. سألهما عن إيمانهما بقدرته، وبعد تأكّده من جوابهما، لمس عينَيهما فاستعادا النظر. أراد يسوع أن يبقيا في خلوة مع نفسهما، ويتمتّعا بعمق هذا اللقاء. لذا طلب منهما ألّا يذيعا خبر شفائهما، ولكن أنّى لهما أن يصمتا! «خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلّها» (متّى ٩: ٣١). فكّ الحصار عنهما، لكنّهما بفعلتهما هذه شدّدا الحصار عليه. فالناس تنبهر بصانع العجائب، وليس بشخصه؛ تنبهر بقدرته وليس بمَن يكون وما هو دافعه. في هذا سوء فهم كبير نحاصر به المسيح ويمنعنا من أن نلتقيه هو في خلوة ونكتشفه على حقيقته ونعاشره على هذا الأساس، وذلك قبل أن نذيع خبره.
في الحالة الثانية، أُحضر الأخرس إلى يسوع. لم يكن الحوار ممكنًا معه لأنّ الشيطان أطبق الحصار عليه وأفقده إمكانيّة النطق. انتهر يسوعُ الشيطانَ فحرّر الأخرس منه فتكلّم هذا الأخير. لا ندري ماذا قال، فالضوء أُلقي على ما هتف به الجمع: «لم يظهر قطّ مثل هذا في إسرائيل» (متّى ٩: ٣٣). إنّه كلام يسلّط الضوء على شخصيّة يسوع وسلطانه. وعليه، لم يتأخّر جواب حارسي الشريعة الفرّيسيّين بتوجيه التهمة إلى يسوع: «برئيس الشياطين يُخرج الشياطين» (متّى ٩: ٣٤). كانت أفضل طريقة لحماية أنفسهم وما يقومون بحراسته، وأفضل هديّة يقدّمونها إلى الشيطان المهزوم قبل برهة. إنّها حملة تضليل وافتراء وكذب جهنّميّة. ظنّوا أنّهم بذلك يحاصرون يسوع إلى الأبد ويلبسونه هويّة كاذبة، على نقيض تلك التي يحملها! أَلا يتكرّر الأمر حتّى يومنا هذا مع يسوع ومع خدّام المسيح الذين يصيبهم من كيل الافتراء والتجنّي من أتراب وإخوة لهم، من دون وجه حقّ؟
حصار بأسماء متعدّدة يطبق على الإنسان، وحصار لاعتبارات أخرى تحاصر يسوع. هذا كلّه لا يثني يسوع عن متابعة كرازته بتلك الوداعة والقوّة اللتَين تفتحان الباب واسعًا أمام استعادة الإنسان حرّيّته، أي الرسوليّة التي أعدّها يسوع لكلّ منّا ودعانا إليها. هكذا يخرج هذا التلميذ إلى رحاب النور، فيرى عمل الله ويذيعه إلى أقاصي الأرض. أَليس هذا ما نلمسه في الإنجيليّ الذي التقاه يسوع عند صندوق الجباية، في ما حفظه لنا في نهاية هذه الحادثة: «كان يسوع يطوف المدن كلّها والقرى يعلّم في مجامعها ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في الشعب» (متّى ٩: ٣٥)؟
فكَّ يسوعُ الحصار عن الإنسان بدعوته إيّاه إلى الرسوليّة، تلك الرسوليّة التي تتعلّم حمل صليب الخدمة وإكليل الافتراءات على السواء، والتي تحمل أيضًا عاهات الناس وضعفاتهم من دون تذمّر فتشفيها بالمحبّة الإلهيّة والمثابرة في الخدمة والكرازة بالكلمة. هكذا يفكّ رسل عالم اليوم الحصار عن أنفسهم وعن إخوتهم وأترابهم، فلا يدعون لأهوائهم وخطاياهم وعمل الشيطان الكلمة الفصل، بل لنعمة الله الحاضرة في كنيسة المسيح وأعضاء جسده. هلّا دخلنا إذًا في تيّار الغلبة هذا، الذي أُعلن مرّة بيسوع- «ثقوا فإنّي قد غلبتُ العالم» (يوحنّا ١٦: ٣٣)- وما زال رسله يعلنونه جيلًا بعد جيل، ويحرّرون باسمه المخلوق على صورة الله؟
سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: رومية ١٥: ١-٧
يا إخوة، يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل وهن الضعفاء ولا نرضي أنفسنا. فليُرضِ كلّ واحد منّا قريبه للخير لأجل البنيان، فإنّ المسيح لم يرضِ نفسه، ولكن كما كُتِب: تعييرات معيّريك وقعَت عليَّ، لأنّ كلّ ما كُتب من قبل إنّما كُتب لتعليمنا ليكون لنا الرجاء بالصبر وبتعزية الكتب. وليُعطكم إله الصبر والتعزية أن تكونوا متّفقي الآراء في ما بينكم بحسب المسيح يسوع، حتّى إنّكم بنفس واحدة وفم واحد تمجّدون الله أبا ربّنا يسوع المسيح. من أجل هذا فليتّخذ بعضكم بعضًا كما اتّخذكم المسيح لمجد الله.
الإنجيل: متّى ٩: ٢٧-٣٥
في ذلك الزمان، فيما يسوع مجتاز، تبعه أعميان يصيحان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود. فلمّا دخل البيت دنا إليه الأعميان، فقال لهما يسوع: هل تؤمنان بأني أقدر على أن أفعل ذلك؟ فقالا له: نعم يا ربّ. حينئذ لمس أعينهما قائلاً: كإيمانكما فليكن لكما، فانفتحت أعينهما. فانتهرهما يسوع قائلًا: انظرا، لا يعلم أحد. فلمّا خرجا شهراه في تلك الأرض كلّها. وبعد خروجهما قدّموا إليه أخرس به شيطان. فلمّا أُخرج الشيطان تكلّم الأخرس. فتعجّب الجموع قائلين: لم يظهر قطّ مثل هذا في إسرائيل. أمّا الفرّيسيّون فقالوا: إنّه برئيس الشياطين يُخرج الشياطين. وكان يسوع يطوف المدن كلّها والقرى، يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في الشعب.