عندما اختار يسوعُ تلاميذَه الأُوَل وطلب منهم أن يكونوا صيّادي بشر، دفعهم إلى الواجهة بشكل خفيّ. لكنّ النصّ الإنجيليّ الذي يُتلى لمناسبة الاحتفال بآباء المجمع المسكونيّ الرابع أفصح علنًا عن أنّنا مدفوعون، إلى الواجهة من دون مواربة. وهذا يضعنا في مرمى الله ومرمى البشر ومرمى الأحداث. فكيف يكون هذا؟
إليك كيف يعلن يسوعُ الأمر: «أنتم نور العالم» (متّى ٨: ١٤). يضعنا في الواجهة، من دون أن يعني أنّ النظر مسلّط علينا، أو أنّنا محطّ الاهتمام. وجودنا وحضورنا وشهادتنا عوامل تشكّل نورًا كاشفًا على حياة أترابنا وأحداث العالم فتعطيها معناها كما هي قائمة في نظر الله. نصبح نقطة تماس بين الله الإنسان، لأنّه، عبر اختبارنا هذا، يمكن للآخرين أن يعاينوا كيف يحيا الله معنا وكيف نحيا نحن معه. هذا هو النور الموضوع في العالم، من أجل حياة العالم وخلاصه.
ماذا يحمل هذا النور إلى العالم؟ يحمل قناعتنا الشخصيّة بأنّ الآب الذي كشفه لنا يسوع هو كلّ شيء بالنسبة إلينا. ويتضمّن أيضًا عيشنا لكلمة يسوع وانتظام حياتنا اليوميّة وتربيتنا على أساسها. ويعكس بالحقيقة أنّنا نستمدّ من يسوع السلام للعالم، والرحمة العظمى لنفوسنا، والمحبّة في علاقتنا مع القريب وخدمتنا له.
إلى مَن يتوجّه هذا النور؟ الحريّ به أن يضيء أوّلًا «لأهل البيت» (متّى ٥: ١٥)، أي المحيط الأقرب إلينا، مَن يعيشون معنا ومَن نعيش في وسطهم؛ وثانيًا، «الناس» (متّى ٥: ١٦)، أترابنا وأبناء جيلنا، ولربّما الأجيال اللاحقة، بحال تقدّسنا.
ما هو مفعول هذا النور على العالم؟ من جهة، يكشف حقيقة عناية الله للإنسان ومحبّته له والتزامه إيّاه حتّى يصل إلى ميناء الخلاص. وعليه، مَن تنفتحْ عيناه على هذه المعرفة يمجّد الآب. ومن جهة أخرى، هو مصدر تعزية، بفعل عمل الروح القدس فينا من أجل البرّ والأعمال الصالحة. وعليه، مَن يلمسْ هذه التعزية، يدركْ مدى الدفء الكامن في محبّة الله وعنايته. هذا ما عبّر عنه يسوع عندما أوصانا: «فليضئْ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات» (متّى ٥: ١٦).
كيف نعيش شهادتنا؟ لو كنّا في مهبّ ريح قادرة على أن تطفئ شعلتنا وتقضي على وجودنا، فإنّنا لا نستسلم ولا نهرب من حقيقة الإنجيل أو نتخلّى عن العيش بمقتضاها، وكأنّنا نختبئ تحت المكيال (متّى ٥: ١٤ و١٥). على العكس، نبقى في الواجهة، أي معرّضين لشتّى أنواع التجارب والضيقات، ولكن نبقى ثابتين في استنادنا إلى الإيمان بيسوع. ومَن صار بيننا موئلًا للروح القدس، وكانت فضيلته مخفيّة عن الآخرين، فهذا يدعوه الربّ من مخبئه ويضعه مثالًا يُحتذى أمام الناس، ليتعلّموا منه طريق الإيمان بالمسيح، وطريق التوبة الصادقة، وطريق الخدمة الباذلة، وطريق السلام والمصالحة.
ولكن كيف عسانا نرى أنفسنا في هذا النور؟ نشعر أنّنا لا شيء، فلا نمجّد سوى الله، ولا نطلب إلى أحد آخر سواه. ونشعر أيضًا بعدم استحقاقنا لعناية الله بنا، فلا نتذمّر من سوء الأوضاع ولا نخاف من خطر أو نقلق بشيء مهما كان. ونشعر أخيرًا بحاجتنا الدائمة والثابتة إلى أن نطلب إلى الربّ أن ينير طريقنا كلّ حين وفي كلّ شيء. هذا يضعنا في طريق الطاعة، فلسنا نحن مَن اختار نفسه لهذه الرسوليّة، بل الربّ هو الداعي إيّانا إليه، إلى اتّباعه. ويضعنا أيضًا في الفرح، لأنّ الله أعطانا أن ندعو باسمه بين أترابنا ونعاونه في مشروع خلاص العالم. فهو الواضع السراج في مهبّ الريح، والمدينة على قمّة الجبل، وهو الواضع لكلّ واحد جهاده والمانح المعونة والتعزيات فيها. هذا عاينّاه حقيقة في شهادات الآباء القدّيسين ومثالهم وتعليمهم. هلّا أقبلنا إذًا إلى النور وطردنا كلّ تردّد وخوف وقلق وخجل، ليضيء نور المسيح في العالم؟
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: تيطس ٣: ٨-١٥
يا ولدي تيطس، صادقة هي الكلمة وإيّاها أريد أن تقرّر حتّى يهتمّ الذين آمنوا بالله في القيام بالأعمال الحسنة. فهذه هي الأعمال الحسنة والنافعة. أمّا المباحثات الهذيانيّة والأنساب والخصومات والمماحكات الناموسيّة فاجتنبها، فإنّها غير نافعة وباطلة. ورجل البدعة بعد الإنذار مرّة وأخرى أعرض عنه، عالمًا أنّ مَن هو كذلك قد اعتسف وهو في الخطيئة يقضي بنفسه على نفسه. ومتى أرسلتُ إليك أرتيماس أو تيخيكوس فبادر أن تأتيَني إلى نيكوبولِس لأنّي قد عزمتُ أن أُشتّي هناك. أمّا زيناس معلّم الناموس وأبلّوس فاجتهدْ فـي تشييعهما متأهّبَيْن لئلّا يعوزهما شيء. وليتعلّم ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصالحة للحاجات الضروريّة حتّى لا يكونوا غير مثمرين. يسلّم عليك جميع الذين معي. سلم على الذين يحبّوننا في الإيمان. النعمة معكم أجمعين، آمين.
الإنجيل: متّى ٥: ١٤-١٩
قال الربّ لتلاميذه: أنتم نور العالم. لا يمكن أن تخفى مدينة واقعة على جبل ولا يوقَد سراج ويوضع تحت المكيال لكن على المنارة ليضيء لجميع الذين فـي البيت. هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات. لا تظنّوا أنّي أتيت لأحلّ الناموس والأنبياء. إنّي لم آت لأحلّ لكن لأتمّم. الحقّ أقول لكم إنّه إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتّى يتمّ الكلّ. فكلّ من يحلّ واحدة من هذه الوصايا الصغار ويعلّم الناس هكذا فإنّه يُدعى صغيرًا في ملكوت السماوات. أمّا الذي يعمل ويعلّم فهذا يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.