كان المرور من كورة الجرجسيّين محفوفًا بالخطر لأنّ مجنونَين كانا يخرجان من القبور هائجَين جدًّا
«حتّى لم يكن أحد يقدر على أن يجتاز من تلك الطريق» (متّى ٨: ٢٨). فالطريق «ملغومة» بعمل
الشيطان، إذا كان هذان المجنونان «مفخّخَين» به. لـمّا مرّ يسوع من هناك فكّك هذه الألغام ودرأ أذاها
عن الإنسان بسماحه للشياطين التي عشّشت في هذَين المجنونَين بأن تغادرهما إلى قطيع الخنازير
الرابض هناك. على الأثر، «اندفع القطيع من على الجرف إلى البحر ومات في المياه» (متّى ٨: ٣٢).
انفجرت الألغام بحامليها فظهر مفعولها المميت والمهلك الكامن فيها وما يمكن أن تلحقه بالإنسان من شرّ
وضرر. بذلك شقّ يسوع الطريق العموميّة لخلاص البشريّة.
لم يكن مرور يسوع من تلك المحلّة «مرور الكرام»، فقد بدّل حياة هذَين الرجلَين المعذّبَين وشقّ لهما
طريقًا جديدة. شفاؤهما هو الهديّة الكبرى التي حصلنا عليها، إذ بفضلهما اكتشفنا عري الإنسان المخدوع
من الشيطان والمستعبَد له، واكتشفنا جمال الإنسان الذي يلبس المسيح ويعيش بنعمته. الفارق بين
الحالتَين، بين لبس أوراق التين بعد الخطيئة في الفردوس، ولبس المسيح في المعموديّة، استبان بأجلى
بيان في الكنيسة كمحصّلة لمرور يسوع من تلك المحلّة. بذلك شقّ يسوع الطريق الخصوصيّة، الخاصّة
بخلاص كلّ واحد منّا.
إلّا أنّ البعض يقوّم المحصّلة بطريقة أخرى، على أساس ردّ فعل سكّان المنطقة. وإن دحر يسوع
الشيطان وأظهر سلطانه على الأرواح النجسة وقدرته على تحرير الإنسان من سطوتها وشفائه منها، إلّا
أنّه لم يستطع أن يشقّ طريقًا إلى قلوب أهل المحلّة. ربّ قائل إنّ الباب بقي موصدًا أمامه في الوقت
الراهن. فهؤلاء لم يشاؤوا أن يصعدوا في القطار الذي وضعه يسوع على السكّة. آثروا أن يضعوا في
الحسبان الخسارة المادّيّة التي تعرّضوا لها من جرّاء نفق قطعانهم، على أن يأخذوا بالاعتبار الكساء
الجديد الذي يلبسه يسوع للمؤمنين به.
لربّما نشمئزّ من أهل تلك الكورة لطلبهم إلى يسوع «أن ينصرف عن تخومهم» (متّى ٨: ٣٤)، لظنّنا
أنّنا لا نحذو حذوهم أحيانًا كثيرة أو قليلة! فهل نحن متأكّدون من أنفسنا إلى هذا الحدّ؟ أَلم نرفض مرّات
كثيرة حلّة النعمة ولبسنا عوضًا منها حلّة الخطيئة وتمسّكنا بها بعناد وكبرياء؟ هذه مرآة أولى نعاين فيها
سلوكنا وواقع نفوسنا.
لربّما نشعر بالأسى كيف أنّ يسوع غادر المكان بهذه البساطة من دون ردّ فعل. لو كنّا مكانه لكنّا تعاملنا
مع الواقعة بشكل مختلف. كنّا سنظهر حقيقة ما حصل ودافعنا عن أنفسنا؛ كنّا وجّهنا الملامة إلى أهل
المحلّة لتعلّقهم بالمادّة عوضًا من الفرح بشفاء الممسوسَين. هذه مرآة ثانية نعاين فيها طريقة بشارتنا.
أمام هذَين الموقفَين المحتملَين في حياتنا، تبرز وداعة يسوع، كما حصل معه في كورة الجرجسيّين. فهو
لم يطالب حينها لا بشكر ولا بحقّ؛ لم يجادل ولا دافع عن نفسه؛ لم ينتفض عليهم، ولا تبرّأ منهم. لم
يترك للانفعال أن يشقّ طريقًا إلى قلبه كما قد يحدث معنا في حالة مماثلة. هذه مرآة ثالثة يمكننا أن نعاين
فيها تمثّلنا للمسيح في حياتنا.
«دخل يسوع السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته» (متّى ٩: ١). غادر إلى مكان آخر وشقّ بذلك طريق
الوداعة في شهادتنا وعلّمنا أن نحذو حذوه في نقل البشارة والكرازة بملكوت الله. فهل ينجح معنا؟ هذه
طريق ثالثة يشقّها يسوع أمام مَن يشاء أن يمشي بالفعل في إثره.
أمام هذه المرايا الثلاث والطرق الثلاث التي استبانت في حادثة الشفاء هذه، بات علينا أن نقدّم جوابًا عن
أنفسنا، بحيث لا يكون مرور يسوع في حياتنا «مرور الكرام»، ولا يكون مرورنا نحن في الكنيسة
«مرور الكرام». في هاتَين الحالتَين، لا يسوع ولا الكنيسة يحدِثان فرقًا في حياتنا، فتبقى الكلمة الأولى
للخطيئة المعشّشة فينا، وللشرّ المستحوذ علينا، وللشيطان الذي يهمس أفكاره فينا. ساعتها لا يمنعنا شيء
من القول ليسوع: «ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أَجئتَ إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟» (متّى ٨: ٢٩). هلّا
انفتحت عيوننا إذًا على حقيقة الإنجيل وعيشها والكرازة بها بحيث يصير يسوع طريقنا كما قال مرّة:
«أنا هو الطريق» (يوحنّا ١٤: ٦)؟
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: رومية ١٠: ١-١٠
يا إخوة إنّ بُغية قلبي وابتهالي إلى الله هما لأجل إسرائيل لخلاصه، فإنّي أَشهد لهم أنّ فيهم غيرة لله إلّا
أنّها ليست عن معرفة، لأنّهم إذ كانوا يجهلون برّ الله ويطلبون أن يقيموا بِرّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله.
إنّما غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكلّ مَن يؤمن. فإنّ موسى يصف البرّ الذي من الناموس بأنّ الإنسان
الذي يعمل هذه الأشياء سيحيا فيها. أمّا البرّ الذي من الإيمان فهكذا يقول فيه: لا تقلْ في قلبك مَن يصعد
إلى السماء؟ أي ليُنزل المسيح؛ أو من يهبط إلى الهاوية؟ أي ليُصعد المسيح من بين الأموات. لكن ماذا
يقول؟ إنّ الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التي نبشّر نحن بها. لأنّك إن اعترفت
بفمك بالربّ يسوع وآمنت بقلبك بأنّ الله قد أقامه من بين الأموات فإنّك تخلُصُ لأنّه بالقلب يؤمَن للبرّ
وبالفم يُعترف للخلاص.
الإنجيل: متّى ٨: ٢٨-٣٤ و٩: ١
في ذلك الزمان لمّا أتى يسوع إلى كورة الجرجسيّين استقبله مجنونان خارجان من القبور، شرسان جدًّا،
حتّى إنّه لم يكن أحد يقدر على أن يجتاز من تلك الطريق. فصاحا قائلَين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟
أجئت إلى ههنا قبل الزمان لتُعذّبنا؟ وكان بعيدًا عنهم قطيع خنازير كثيرة ترعى. فأخذ الشياطين يطلبون
إليه قائلين: إن كنت تُخرجنا فأْذَنْ لنا بأن نذهب إلى قطيع الخنازير. فقال لهم: اذهبوا. فخرجوا وذهبوا
إلى قطيع الخنازير. فإذا بالقطيع كلّه قد وثب عن الجُرف إلى البحر ومات في المياه. أمّا الرعاة فهربوا
ومضوا إلى المدينة، وأخبروا بكلّ شيء وبأمر المجنونين. فخرجت المدينة كلّها للقاء يسـوع. ولمّا رأوه
طلبوا إليه أن يتحوّل عن تخومهم. فدخل السفينة واجتاز وأتى إلى مدينته.
كلمة الراعي
من «مرور الكرام»
إلى شقّ «الطريق» في حياتنا