يملأ حديث يسوع عن الآب إنجيل يوحنّا بشكل يميّزه عن بقيّة الأناجيل. يقول لنا فيه إنّه مرسَل من
الآب، ويعمل مشيئته، ويسمع كلمته، وباسمه يقوم بكلّ شيء، ومنه تلقّى كلّ سلطان، وإليه يرفع
المناجاة، وفي يدَيه يستودع روحه، ومنه ينتظر المجد الذي كان له قبل إنشاء العالم.
أيّ إنسان يمكنه أن يقدّم نفسه هكذا بصلته مع الله؟ كَشْف يسوع عن أبيه وعن صلته بأبيه سبّبا درجات
من الرفض متنوّعة، بدأت بالتساؤل، فالحيرة بشأنه، فالشكّ فيه، فالتجديف عليه، فالتآمر على رجمه ثمّ
على قتله. هذا ما جال في نفس عدد من اليهود ورؤسائهم. أمّا في نفس يسوع فكانت تجول أمور أخرى
يريدها أن تصل إلينا وتكون لنا. فهو، رغم الرفض أو اللامبالاة أو عدم الفهم من معاصريه وأترابه
وأبناء اليهود، ومنّا أيضًا، يستمرّ في عمله الذي أعطاه إيّاه الآب ليكمله. لم يتوانَ، أمام كثافة الظلام
الذي يعيش فيه الإنسان، لا بل بسبب كثافته القاتلة، في أن يحدّثه عن النور.
هكذا، لا يتوقّف يسوع أبدًا عن الكشف عن الله وفعله فينا. هوذا اليوم، في صبيحة العنصرة، نطالعه
يتحدّث في الإنجيل عن الأقنوم الثالث، أي الروح القدس. لم يكتفِ بأن يحدّثنا عن الآب، بل أراد أن
يضعنا في خطّ عمل الأقنوم الآخر. في هذا السبيل استخدم صورة عرفها الرسل بالخبرة معه على شكل
تدفّق «أنهار ماء حيّ» من البطن (يوحنّا ٧: ٣٩ و٣٨) كصورة عن فعله فينا. فمَن اختبر فعله في
داخله يلمس فيضًا متدفّقًا منه، غزيرًا وجديدًا ومدهشًا، من المعاني والإيمان والمحبّة والغفران والفهم
والحكمة والنقاوة.
هل كان يحتاج يسوع إلى أن يقوم بهذا الكشف في أجواء لا يكتنفها، لدى مستمعيه ومحدّثيه، التفهّم
والاستعداد الحسن بأفضل تقدير؟ لا بدّ لنا من القول إنّ عطيّة الآب، في نظر يسوع، كانت أهمّ عطيّة
على الإطلاق يمكنه أن يقدّمها لنا، فهي أشهى لديه من حياته نفسها، وذلك بأنّ معرفة الآب، أي الإيمان
به وبـمَن أرسله، هي حياة أبديّة بالنسبة إلينا. ولـمّا كانت مسيرتنا نحو الآب تحتاج إلى نعمة الله، فبدونها
نبقى في الظلام، كان من الضروريّ أن يعرّفنا بالروح القدس. هذا كلّه كان بدافع حبّ الابن للآب
والروح، وبدافع حبّه للإنسان.
لذا لم يتورّع يسوع عن أن يقف أمام الملء ويطلق دعوته الكبرى مرّة وإلى الأبد: «إن عطش أحد
فليُقبلْ إليّ ويشرب» (يوحنّا ٧: ٣٧). نعم، كنوز السماء مفتوحة لسكّان الأرض. ويريد يسوع أن يعطينا
كنزه الخاصّ. ألا يذكّرنا هذا بقوله: «حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك» (متّى ٦: ٢١)؟
للأسف، لم تلقَ دعوته هذه القبول، فقد «حدث انشقاق في الجمع من أجله» (يوحنّا ٧: ٤٣). وكما شكّل
قبلًا حديثه عن الآب وعلاقته به معثرة لمستمعيه، حتّى قال فيه البعض إنّ به شيطانًا أو إنّه سامريّ أو
إنّه يجدّف (يوحنّا ٨: ٤٨ و١٠: ٣٦)، كذلك اليوم، تأرجحت ردود الفعل لدى مستمعيه بين تساؤل إن
كان هو «بالحقيقة النبيّ»، أو «هو المسيح»، حتّى بلغت حدّ التشكيك في أصله وفي أصالة دوره (يوحنّا
٧: ٢٠-٤٢). لقد تحوّل يسوع، في نظر رؤساء الكهنة والفرّيسيّين، إلى مادّة «ملغومة» و«مفخّخة» لا
يسعهم التعاطي معها بأريحيّة. فهو بالعمق «مضِلّ»، وما يقوله ويفعله لا يخدم فهمهم للناموس ولا
سلطتهم ولا مرجعيّتهم، لذا كان لا بدّ من «إلقاء القبض» عليه (يوحنّا ٧: ٤٥ و٤٧).
هل نفع إعلان يسوع هذا؟ إليكم كيف كلّله: «أنا هو نور العالم. مَن يتبعْني فلا يمشي في الظلمة بل
يكون له نور الحياة» (يوحنّا ٨: ١٢). ترك لنا حرّيّة الاختيار، وحسنًا فعل! فهلّا أحسنّا الاختيار إذًا؟ هل
أنت عطشان إلى الحقّ والعدل، إلى المحبّة والغفران، إلى الصدق والنبل، إلى المصالحة والسلام، إلى
الفرح والوئام؟ بات لديك عنوان تقصده، لا بل شخص يلبّيك، لا بل إله يرويك بكرم حتّى تفيض من
عطاياه على غيرك. فإن كنتَ من هؤلاء العطشانين، ففي العنصرة يمكنك أن ترتوي وتسقي. أهلًا بك
إذًا في كنيسة المسيح.
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: أعمال الرسل ٢: ١-١١
لمّا حلّ يوم الخمسين كان الرسل كلّهم معًا في مكان واحد. فحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح
شديدة تعسف، وملأ كلّ البيت الذي كانوا جالسين فيه. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار فاستقرّت
على كلّ واحد منهم. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما أعطاهم الروح
أن ينطقوا. وكان في أورشليم رجال يهود أتقياء من كلّ أُمّة تحت السماء. فلمّا صار هذا الصوت اجتمع
الجمهور فتحيّروا لأنّ كلّ واحد كان يسـمعهم ينطقون بلغته. فدهشوا جميعهم وتعجّبوا قائلين بعضهم
لبعض: أليس هؤلاء المتكلّمون كلّهم جليليّين؟ فكيف نسمع كلّ منّا لغته التي وُلد فيها؟ نحن الفَرتيّين
والماديّين والعيلاميّين وسكّان ما بين النهرين واليهوديّة وكبادوكية وبُنطُس وآسية وفريجية وبمفيلية
ومصر ونواحي ليبية عند القيروان والرومانيّين المستوطنين واليهود والدخلاء والكريتيّين والعرب
نسمعهم ينطقون بألسنتنا بعظائم الله.
الإنجيل: يوحنّا ٧: ٣٧-٥٢
في اليوم الآخِر العظيم من العيد كان يسوع واقفًا فصاح قائلًا: إن عطش أحد فليأتِ إليَّ ويشرب. من
آمن بي فكما قال الكتاب ستجري من بطنه أنهار ماء حيّ (إنّما قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون
به مُزمعين أن يقبلوه إذ لم يكن الروح القدس بعد لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مُجّد). فكثيرون من الجمع لمّا
سمعوا كلامه قالوا: هذا بالحقيقة هو النبيّ. وقال آخرون: هذا هو المسيح. وآخرون قالوا: ألعلّ المسيح
من الجليل يأتي؟ ألم يقُل الكتاب إنّه من نسل داود من بيت لحم، القرية حيث كان داود، يأتي المسيح؟
فحدث شقاق بين الجمع من أجله. وكان قوم منهم يريدون أن يُمسكوه ولكن لم يُلقِ أحد عليه يدًا. فجاء
الخُدّام إلى رؤساء الكهنة والفرّيسيّين، فقال هؤلاء لهم: لمَ لم تأتوا به؟ فأجاب الخدام: لم يتكلّم قطّ إنسان
هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفرّيسيّون: ألعلّكم أنتم أيضًا قد ضللتم؟ هل أحد من الرؤساء أو من
الفرّيسيّين آمن به؟ أمّا هؤلاء الجمع الذين لا يعرفون الناموس فهم ملعونون. فقال لهم نيقوديمُس الذي
كان قد جاء إليه ليلًا وهو واحد منهم: ألعلّ ناموسنا يدين إنسانًا إن لم يسمع منه أوّلًا ويَعلم ما فعل؟
أجابوا وقالوا له: ألعلّك أنت أيضًا من الجليل؟ ابحث وانظر أنّه لم يَقُمْ نبيّ من الجليل. ثمّ كلّمهم أيضًا
يسوع قائلًا: أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة.
كلمة الراعي
نبع العطشان والساقي