...

قوّتي في الضعف

 

 

٦-٨) إلى آخر حياته. حسب نعمة الله المعطاة له كبنّاء حكيم، ما تكلّم مرّة واحدة عمّا قاساه في أسفاره،
ولا هو حسب حسابات الكيلومترات التي قطعها لكي يصل إلى هذه المدينة أو تلك. هذا ما جعل القدّيس
يوحنّا الذهبيّ الفم، في معرض تعليقه على (٢كورنثوس ٦: ٤)، يمدحه قائلًا: «أودّ لو أتطلّع إلى تراب
قدميه اللتين جابتا المسكونة بلا كلل». يعرف القدّيس بولس أنّ لا شيء يميّز الرسول إلّا النعمة، والنعمة
الرسوليّة واحدة للجميع. تقع الأفضليّة بين الرسل في حدود تعب الخدمة وآلامها وحسب. ولكن عندما
يكون وإرساليّته تحت الفحص بالنسبة إلى الغلاطيّين، يتمادى في شرح علاقته الشخصيّة برسل أورشليم
(غلاطية ٢: ٩). هو ليس أقلّ من سائر الرسل على جميع الصعد (٢كورنثوس ١١: ٢٢-٣٠). حلّت
الاضطهادات عليه من كلّ جانب، من بني جنسه ومن الأمم، مع أسفار كثيرة وأتعاب لا حدّ لها، فواجه
المصاعب المتنوّعة، وبقي أمينًا لرسالته فيها كلّها، لا شيء يفصله عن محبّة المسيح (رومية ٨: ٣٨-
٣٩). هو يدرك عجزه عن ممارسة خدمته وشهادته من دون نعمة الروح الساكن فيه (غلاطية ٥: ٢٢-
٢٣).
شخّص بولس المرض الذي يسبب تلك الهجمات الشرسة ضدّه، فازداد اهتمامه بأعدائه ورعايته لهم
كمرضى. نسمعه وهو يخاطبنا بلطفٍ وحنانٍ فائق عن الذين جلدوه خمس مرات (٢كورنثوس ١١:
٢٤)، ورجموه وقيّدوه وسفكوا دمه، واشتهوا تقطيعه إربًا (رومية ٢:١٠). انطلق من لوم وجّه إليه،
فحدّد وضعه البشريّ. هو لا يتصرّف حسب البدن، حسب البشريّة، أي إنّ عمله لا يوافق التصرّف
البشريّ، لا يحارب كما يحارب البشر، قوّته تأتي من الله. وإذا ما تكلّم على نفسه، فليردّ الكورنثيّين إلى
الإنجيل. كلّ هدفه أن ينتزع كلّ حجة من الرسل الكذبة. تعدّدت محاور هجوم هؤلاء عليه: ليس رسولًا
تاريخيًّا، إذ لم يرافق يسوع منذ عماده وحتّى صعوده، يخون الشعب اليهوديّ بمعارضته للشريعة
وتوجيهه كلامه بصورة خاصّة إلى الوثنيّين. أبرز الرسول الرباط المستمرّ بين المسيح ورسالته، ولم
يتردّد في أن ينحدر ويتواضع. تجرّد من كلّ ما يشكِّل الواقع الظاهر لرسالته. استعمل برهان الضعف
كخطّة ضدّ خصومه الذين لو كانوا مكانه لشدّدوا على القوّة. الضعف ليس حاجزًا أمام الرسالة، بل هو
عنصر جوهريّ في الكرازة وفي تصرّف الرسول الشرعيّ. فبقدر ما يكون الرسول ضعيفًا، يظهر
الإنجيل في شفافيّته، ويتقوّى الكورنثيّون الذين يقبلونه. يسمح الضعف لسلطة المسيح بأن تظهر بصورة
أبهى، ساعة تريد وبالطرائق التي تريد. علامة الرسول الحقّ هي التجرّد، والبنيان هدفه. أمّا القوة
الحقيقيّة التي تعمل فيه، فلا تأتي منه، بل من الله: «ولكِنّ هذا الكنز نحمِله نحن فِي أوعِيةٍ مِن فخّارٍ،
لِيتبيّن أنّ القدرة الفائِقة آتِيةٌ مِن اللهِ لا صادِرة مِنّا» (٢كورنثوس ٤: ٧).
اعتاش الرسول من تعب يديه، إلّا أنّ ذلك لم يحل دون انهماكه في مناظرات عامّة بطاقة عالية،
واهتمامه بجميع الكنائس، إذ عمل نهارًا وعلّم ليلًا. قاسى شدائد لا عدّ لها. لصوصٌ وقطّاع طرق،

ضربٌ ورجمٌ وجلد. حتّى إنّه قاسى الأرق طوعًا في بعض لياليه، كما فرض عليه صوم لا إراديّ،
فضلًا عن البرد والعري عندما انكسرت به السفينة قرب جزيرة مالطة، فأنجده السكّان المحلّيّون (أعمال
الرسل ٢٨: ١-١٠). لا مجال للتوقّف: «مبشِّرًا بملكوتِ اللهِ، ومعلِّمًا الأمور المختصّة بالربِّ يسوع
المسِيحِ بِكلِّ جرأةٍ وبِلا عائِق» (أعمال الرسل ٢٨: ٣١). حتّى في السجن، يواصل بولس رسالته.
يعتبر القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أنّ ضبط أرجل بولس وسيلا في المقطرة في السجن الداخليّ المظلم
(أعمال الرسل ١٦: ١٩-٣٤)، من شأنه أن يظهر قدرة المسيح على إطلاقهما. فيتمكّن بولس الرسول
بالصلاة فقط من أن يهزّ أساسات السجن ويفتح أبوابه ويحلّ جميع المقيّدين. وجود الرسولين في السجن
لا يؤدِّي بهما إلى اليأس والإحباط. فبعد نزع ثيابهما وضربهما بالعصيّ وشدّ أرجلهما بالمقطرة، نجدهما
مثالًا لنا في شدّتنا ومحنتنا. يبقى الرسول يقظًا ليحول دون موت السجّان. صار السجن فرصةً لغير
المهتدين ليأتوا إلى الإيمان.
عرف بولس بشكل خاصّ عداوة اليهود التي لاحقته من مدينة إلى مدينة، بل فرضت عليه مرّة أن يبدّل
طريقه فيمضي في البرّ لا في البحر درءًا للخطر. فاكتسب من هذه المحن والمسافات الشاسعة التي
قطعها في البرّ والبحر خبرةً، كما علّمته الفطنة والحذر (أعمال الرسل ٢٧: ٢١-٢٢ و٣١). في السفينة
حمل الإنجيل، وكذلك على الطرقات الطويلة، فشابه المسيح الذي صوّره الإنجيليّون حاضرًا في المجمع،
في البيت، في الساحة العامّة، في الهيكل. همّ هذا الرسول أن يصل الإنجيل إلى كلّ مكان، ما أراد أيضًا
أن يترك بقعة لم تصل إليها البشارة. وفي كلّ ذلك، كان مبتهجًا فرحًا متيقّنًا أنّ آلام الحياة الحاضرة
أنتجت له مكافآتٍ كبيرة، وأنّ الأخطار أنجبت تاجًا. يمارس ضبط النفس في كلِّ شيء (١كورنثوس ٩:
٢٥)، ويعرف أن يعيش في الضيقة، كما يعرف أن يعيش في السعة، وفي جميع الظروف يختبر الشبع
والجوع والفرج والضيق. اشتعل بمحبّة الله وهو قادر على تحمّل كلّ شيء بالمسيح الذي يقوّيه (فيليبّي
٤: ١٢-١٣). هو العارف أنّ كلّ ضيقة في الزمان الحاضر مآلها إلى زوال، أمّا وعد الله بالمجد فقائم
ويزداد كلّ يوم: « فإنِّي أحسِب أنّ آلام الزمانِ الحاضِرِ ليست شيئًا إِذا قِيست بِالمجدِ الآتِي الّذِي سيعلن
فِينا» (رومية ٨: ١٨).
نرى الرسول يدافع عن نفسه على مستوى البلاغة والكلام (٢كورنثوس ١١: ٥)، وعلى مستوى خبرات
روحيّة غير عاديّة (٢كورنثوس ١٢: ١-١٠)، كما ينتظر بصبر كثير (رومية ٥: ٣-٥)، فالضيقة سببٌ
لتنسكب تعزية ربّنا ومحبّته في قلوبنا عندما نحبّ أعداءنا. يكتشف من يتتبّع حياة القدّيس بولس إنسانًا
قادرًا على الدفاع عن نفسه وعمله ومقاضاة خصومه، إنسانًا حقيقيًّا ومؤمنًا يعرف أيضًا معنى الصراع
الروحيّ الداخليّ وتذوّق الراحة في يد الله. لقاؤه الشخصيّ بالربّ يسوع طاول الفكر والطبع. هذا
الاتّصال العميق والدائم بالسيّد هو مكان ولادته الدائمة وتجدّده وصبره وتحمّله وإبداعه وإيجاده للحلول
وتدبيره وصقل شخصيّته، وهو الذي جعل فيه الرغبة الكبيرة لإعلان البشرى. رجاؤه حيّ في المسيح
الذي يرى فيه بولس كماله الشخصيّ وتحقيق ذاته.
يئنّ المؤمنون اليوم تحت ثقل آلامهم النفسيّة والجسديّة. تحاصرهم هجمات الشرّير من الداخل والخارج.
باتوا مهانين متحيّرين، كما لو كان العدوّ في الظاهر قد انتصر بالفعل. تعب أيديهم يقصّر عن المأكل
والمشرب. غير أنّ الأمناء منهم، يسعون إلى جهاد حسن برضى وثقة وصبر، راجين أن يسمح ضعفهم
لقدرة المسيح بأن تظهر. صلاتهم قادرة على فتح الأبواب المغلقة وحلّ جميع المقيّدين. همّهم أن يصل
الإنجيل إلى كلّ مكان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوّتي في الضعف