...

محنة الرسل

«قد كلّمتكم بهذا كيلا تعثروا. سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة يظنّ فيها كلّ من يقتلكم أنّه يقدّم
عبادة لله» (يوحنّا ١٦: ١-٢).
هذا ما قاله يسوع لتلاميذه في الخطبة الوداعيّة الثانية في إنجيل يوحنّا، قبل الدخول إلى أورشليم لإتمام
عمله الخلاصيّ. كان الربّ حريصًا على إظهار المحنة التي سيتعرّض لها الرسل بعد ذهابه عنهم، كيلا
يعثروا بل يثبتوا في إيمانهم. ابتدأت بوادر هذه المحنة حقيقةً بعد قبض اليهود على يسوع الذي واجه
الصلب وحيدًا. حينذاك توارى الرسل عن الأنظار، بطرس أنكر المسيح، أصابهم الخوف أمام أوّل محنة
فتبدّدوا كالخراف التي لا راعي لها. هذا الوضع المتأزّم سرعان ما تبدّل، فقد زال خوف الرسل بعد أن
رأَوا الربّ قائمًا. ظهر لهم أربعين يومًا، وقبل أن يرتفع عنهم، وعدهم بإرسال الروح القدس المعزّي.
بقي الرسل في أورشليم على كلمة الربّ إلى أن حلّ عليهم الروح القدس في اليوم الخمسين، وامتلأ
الجميع منه. حينئذٍ زال خوفهم وابتدأوا يبشّرون بقيامة الربّ يسوع بمجاهرة. هذه البشرى كانت سبب
محنتهم واضطهادهم على حدّ ما تشير إليه هذه الآية: «وأوصوهم بألّا يتكلّموا باسم يسوع» (أعمال ٥:
٤٠).
يخبرنا القدّيس لوقا البشير، في الإصحاحين الرابع والخامس من أعمال الرسل، عن بدء المحن التي
تعرّضت لها الجماعة المسيحيّة الأولى، بعد أن ألقى اليهود الأيادي على بطرس ويوحنّا: «وبينما هما
يخاطبان الشعب أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل واعتقلوهما وسجنوهما» (أعمال ٤: ٣). في المرّة
الثانية، اعتقلوا كلّ الرسل ووضعوهم في حبس العامّة (أعمال ٥: ١٧-١٨). هذان الاعتقالان هما بداءة
سلسلة من الاضطهادات التي ستطال كلّ من يعلن قيامة المسيح ويبشّر بها.
ما كان ردّ فعل الرسل؟ كيف تصرّفت الجماعة المسيحيّة الأولى في ظلّ هذه المحن؟
في الاعتقال الأوّل لم يخف بطرس ويوحنّا ولم يتراجعا عن تعليمهما، بل وقفا بشجاعة أمام مجمع اليهود
مجاهرَين بقيامة يسوع. لم يفقدا رجاءهما بكلمة الربّ يسوع لمّا قال: «فحين يُسَلِّمونكم، لا تهتمّوا كيف
تتكلَّمون أو ماذا تقولون. فلستم أنتم المتكلِّمين، بل روح أبيكم هو الذي يتكلَّم فيكم» (متَّى ١٠: ١٩-٢٠)،
بل حافظا على إيمانهما بالربّ. «ولمّا أُطلقا عادا إلى جماعتهما ورفعوا كلّهم بنفس واحدة أصوات
الشكر والتسبيح إلى الله» (أعمال ٤: ٢٣-٢٤).
في الاعتقال الثاني ثبت الرسل على إيمانهم بالربّ، ولم يهابوا السجن فأتى ملاك الربّ وفتح أبواب
السجن وأخرجهم فعادوا إلى الهيكل وجعلوا يعلّمون ويبشّرون (أعمال ٥: ١٩-٢١) رغم حنق المجمع
اليهوديّ عليهم وتهديده لهم. وبعد إطلاقهم ثانيةً، عاد الرسل فرحين لأنّهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من
أجل اسم يسوع (أعمال ٥: ٤١).
تتبدّى لنا في هذين المشهدين محنةُ الرسل والاضطهاد الذي عانوه بسبب تبشيرهم باسم يسوع. لكنّهم لم
يحسبوا للحظة هذا الاضطهاد حملًا ثقيلًا يصعب احتماله، إنّما تقبّلوه بطول أناة وفرح.

كيف استطاع، أولئك الذين تركوا الربّ يسوع بعد أن أُسلم وصُلب، أن يتخطّوا خوفهم ويصبحوا
مبشّري المسكونة ومدشّني الطريق أمام الناس ليأتوا إلى يسوع؟
عرف الرسل أنّ المحنة الحقيقيّة تأتي من عدم نشر رسالة الخلاص في كلّ المسكونة. لم يخافوا ممّن
يقتل أجسادهم، بل ممّن يقتل سَعْيَهُم لنشر بشرى الخلاص في العالم. لذا وضعوا رجاءهم في الربّ
وأطاعوا كلمته: «إذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم» (متّى ٢٨: ١٩).
إلى جانب هذا الرجاء العظيم، كان تعاضد الرسل في ما بينهم وتعاضد الجماعة المسيحيّة الأولى معهم
دافعًا كبيرًا لهم للاستمرار بمهمّتهم البشاريّة. تبرز لنا أشكال هذا التعاضد في مطلع سفر أعمال الرسل
لمّا اقتبل ثلاثة آلاف شخص المعموديّة، بعد خطبة الرسول بطرس الأولى «وجميع الذي آمنوا كانوا
معًا، وكان عندهم كلّ شيء مشتركًا» (أعمال ٢: ٤٤). تعاضدوا في كلّ شيء، في التعليم والصلوات
وكسر الخبز والأموال والأملاك والمقتنيات. حتّى في الاضطهاد اشتركوا جميعهم.
نشهد اليوم في بلادنا محنةً صعبة، صحّيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. دعوتنا أوّلًا إلى أن نتخطّى هذه المحنة
من دون الوقوع في الخوف واليأس تمامًا كما فعل الرسل. قال الربّ لتلاميذه «لا أترككم يتامى بل آتي
اليكم» (يوحنّا ١٤: ١٨). لن يتركنا الرّب طالما أنّنا نطلبه ونضع رجاءنا عليه. نحن المؤمنين، نترجّى،
قبل كلّ شيء، الحياةَ الأبديّة. بكلامٍ آخر، نترجّى خلاص نفوسنا والباقي كلّه يزاد لنا (متّى ٦: ٣٣). نحيا
على هذا الرجاء، بكلّ كياننا، عبر الصلاة الدائمة التي نرفعها إلى أبينا السماويّ، محمّلينها آلامنا وآلام
إخوتنا وكلّ العالم، تمامًا كما فعلت الجماعة المسيحيّة الأولى «بنفس واحدة». أسمى أنواع التعاضد
والمحبّة، يبدأ من هذه الصلاة، ومنها ينطلق في خدمة الإخوة الضعفاء لبلسمة جراحهم وتخفيف وطأة
المحنة عليهم. هكذا نصير، كما الرسل، شاهدين لبشرى الخلاص في كلّ العالم عبر حياتنا، فيتعزّى
بسيرتنا الكثيرون.

 

 

 

 

 

 

محنة الرسل