...

الفتية الثلاثة القدّيسون

نُردِّد تسبحة الفتية الثلاثة القدّيسين في التسبحتَين السابعة والثامنة صباح كلّ يوم، وفي كلّ قانون، وبالأخصّ في السبت العظيم المقدّس. هم من أشراف العبرانيّين من المملكة اليهوديّة. يذكر كتاب دانيال النبيّ أنّه في السنة الثالثة من تملُّك يهوياقيم على يهوذا، حضر نبوخذنصَّر ملك بابل وحاصر أورشليم. أمَرَ نبوخذنصَّرُ رئيسَ خدّامه بأنْ يُحضِر معه إلى بابل، فتيانًا حِسان المنظر، أقوياء البُنية وحكماء.

أخَذَ رئيسُ الخدَم أربعة فتيان من بني يهوذا، هم: دانيال النبيّ، وحَنانيا، وعَزَريا، وميصائيل (دانيال ١: ٧). بدءًا، ألغى أسماءهم العبريّة وأعطاهم أسماء بابليّة. ولـمّا أتاهم بالطعام رفضوا أن يأكلوا كيلا يتنجَّسوا بما لا يوافق الشريعة، وطلب دانيال إليه أن يعطيهم عوضًا من ذلك بقولاً وماء فقط. ولم تنحرف بالصوم صحّة الفتية بل كانت أفضل من البقيّة، وكان فكرهم دائمًا عند الله. يُصلّون ويطلبون إليه أن يرحمهم، ويشكرونه على كلَّ شيء يمرُّ معهم.

لكنّ العُتوَّ بَلَغ بنبوخذنصَّر مبلغًا كبيرًا فصنَع لنفسه تمثالًا ضخمًا من الذهب، وأَمَر بأنْ يَسجُدَ له الجميع وإلاّ يُلقَون في أتون النار. ولما لم يسجُد الفتية الثلاثة، اغتاظ نبوخذنصَّر منهم.

لأن لسان حالهم هو: إنَّ إلَهَنا قادرٌ على إنقاذِنا إذا شاء، وإذا أراد الله لنا أن نموت شهادةً على عبادتنا له وإيماننا به، فنحن قابلون للموت ولا نطلب النجاة من النار خوفًا على أرواحنا، لأنّنا نطلب الحياة الأبديّة مع الله ونبتغي رضاه. فالموت آتٍ على الجميع، لكنّ الفرق في مَن يَموتُ بعيدًا عن الله ومَن يكون في حِضْنِ الله! لقد عَمِلوا بحسب قول الربّ يسوع: «لا تخافوا مِن الذين يَقتلون الجسَد ولكنَّ النَّفْسَ لا يقدرون على أنْ يَقتلوها، بل خافوا بالحَرِيّ مِن الذي يقدر على أَنْ يُهلِكَ النَّفْسَ والجسَدَ كليهما في جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨).

رفضوا السقوط في حيلة الملك الزاعمة أنَّ على الإله الحقيقيّ أن ينجّي عبيده من الموت. قالوا: إنْ شاء ينجّينا، وإنْ لم يشأ يَضمّنا إليه، فنحن للربّ، إنْ عِشنا أو مُتنا (رومية ١٤: ٨). وضعوا أرواحهم بين يدَيه، فإمّا ينقلهم إليه أو يشهدون له. هكذا شهدوا لله منذ البدء وما كانوا يخشون الموت، بل خسارة الحياة مع الله. وما زادهم الصوم والصلاة إلّا صلابةً في الإيمان فاقتحموا النار التي أُعدَّت لهم غير هيّابين من الموت. حينئذ انحدَر ملاك الربّ إلى وسط الأتون وصارت النار كأنّها ندًى ولم تلسعهم ولا أحرقتهم.

هذا رأه نبوخَذنَصَّر (دانيال ٣: ٢٥)؛ لقد حضر ابنُ الله لمعونتهم وكان معهم وهم بعيدون عن الهيكل. آمَن نبوخذنَصَّر بإلههم وناداهم ليخرجوا، فخرجوا وشعرةٌ مِن رؤوسهم لم تحترق ولم تَكُن عليهم رائحة النار. لقد بيَّنَ الله عبرهم أنّه يطلب ذبيحة القلب الخاشع، كما قال داود النبيّ: «الذبيحة لله روحٌ منسحقٌ» (مزمور ٥٠: ١٧)، وأنَّه لا يمنع نعمته عن القلوب الخاشعة والمتواضعة (مزمور ٥٠: ١٧).

بعد حياة كلّها صوم وصلاة اختبروا أنّه ليس بالخبز وَحْدَه يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله (متّى ٤: ٤). لقد ترفّعوا عن الدنيويّات طالبين السماويّات لأنَّ كنزهم الحقيقيّ هو في السماء (متّى ٦: ٢١). لا يستطيع الشرّير إغواء مَن ترفَّعوا عن الدنيويّات ولا يُمكنه احتمال ما يرفعونه من تسبيح وشكر لله، فيهرب، وعندها يصبحون أنقياء ويخترق نورُ الله كيانهم. نتعلَّم منهم أنّنا وإنْ كنّا بعيدين عن هيكل الله حيث تُقدَّم الذبيحة، نستطيع أن نرفع قلوبنا المنسحقة أمام الربّ ذبيحةً فننال منه نعمةً تجعلنا في فرحٍ

مع الربّ وتطرد كلّ خوفٍ فينا من الموت. دعونا نرفع في هذه الفترة قلوبنا إلى الله ونتضرَّع إليه لكي يرحمنا ويرأف بنا، ويعلّمنا التواضع، وربّما حينها نلمس حضوره فنحيا، آمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفتية الثلاثة القدّيسون