توقيت الله لخلاص الإنسان حاضر أبدًا. كلّ وقت مفيد له في حركة عقارب ساعة الخلاص. لربّما نظنّ أنّنا نسيطر على مجرى الأحداث وأنّه بإمكاننا أن نغيّر عمل عقارب هذه الساعة، ولكنّ الأحداث التي يطالعنا بها إنجيل أحد الشعانين تثبت العكس تمامًا. المشهد الذي يظلّل هذه الأحداث يكمن في إقامة يسوع للعازر من بين الأموات، أمّا أبطالها فمعروفون منّا: لعازر وأختاه، التلاميذ الاثنَا عشر، اليهود ورؤساء الكهنة، وسكّان أورشليم.
دقّت ساعة مريم، فدهنت قدمَي يسوع بالطيب ومسحتهما بشعرها. أتى عملها ضمن توقيت تدبير الله العظيم، أو هو شاء أن يعطي ما قامت به هذا التفسير الجليل، وذلك على ضوء اعتراض يهوذا على إسرافها في شراء الطيب عوضًا من تخصيص المال للفقراء. إليكم كيف اختصر يسوع ذلك: «اتركوها! إنّها ليوم تكفيني قد حفظته، لأنّ الفقراء معكم في كلّ حين، وأمّا أنا فلستُ معكم في كلّ حين» (يوحنّا ١٢: ٧). بالفعل، فإنّ ما قامت به مريم يتوافق مع تدبيره من حيث لا تدري، إذ لن يستطيع أحد أن يطيّب جسد المسيح بعد موته، لأنّه سيقوم قبل أن يؤدّي أحد هذه الرتبة الجنائزيّة! ها مريم قد استبقت بتطييبها يسوع الآن، ما ستفرضه قيامة يسوع من واقع جديد! لقد وضع يسوع ما صنعتْ في سياق قيامته منذ قبل حدوثها!
هناك ساعة أخرى دقّت أيضًا. إنّها ساعة اليهود وبشكل خاصّ رؤساء الكهنة. كانت عقارب ساعتهم تشير إلى انخراطهم في مشروع القضاء على البشرى، وعلى أيقونتها ذي الوقع الشعبيّ الكبير، لعازر، من بعد أن أقامه يسوع من بين الأموات، ظنًّا منهم بأنّهم يقطعون دابر الإيمان به: «فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا، لأنّ كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع» (يوحنّا ١٢: ١٠-١١). هؤلاء أيضًا، من حيث لا يدرون، خدموا التدبير الخلاصيّ. فإضافة لعازر على لائحة مَن تجب تصفيتهم، أي يسوع، لن يغيّر من تصميم يسوع على الذهاب في تقدمة ذاته حتّى النهاية، تلك التقدمة التي أعدّ تلاميذه من أجلها متى ضُبطت عقاربها.
ساعة ثالثة دقّت. إنّها ساعة الملك نفسه، وليست ساعة إحبّائه أو أعدائه! إنّها ساعة الدخول في المشهد الأساس للتدبير الخلاصيّ، المشهد الذي لن يراه أحد مرّة أخرى إلّا لـمّا يأتي هذا الملك بمجده مع ملائكته القدّيسين. هكذا تمّ استقباله: «أوصنّا! مبارك الآتي باسم الربّ! ملك إسرائيل»، صيحة تحوي دقّات ساعة قديمة أنبأت بشأنه: «لا تخافي يا ابنة صهيون. هوذا ملكك يأتي جالسًا على جحش أتان» (يوحنّا ١٢: ١٣، ١٥).
لا شكّ في أن دقّات الساعات هذه لم يسمعها معاصرو يسوع، ولا حتّى أقرب المقرّبين إليه. هؤلاء بالذات كان ينقصهم، حتّى يدركوا ويقتبلوا ما جرى، القيام بثلاث خطوات أساسيّة، متكاملة ومتعاقبة. أوّلًا، أن يأخذوا مسافة من الأحداث كلّها، وهذا حصل بفعل هربهم من البستان واختبائهم خوفًا (متّى
٢٦: ٥٦؛ يوحنّا ٢٠: ١٩)؛ ثمّ، أن يقوموا بجردة حساب داخليّة، رصينة ومؤلمة، كما استبان لنا جليًّا مع توما (يوحنّا ٢٠: ١٩-٢٩)؛ وأخيرًا، أن تنضج توبتهم الخاصّة على ضوء ما ستكشفه الأحداث الإليمة في الأسبوع العظيم، كما رافقنا خبرة بطرس (متّى ٢٦: ٧٥؛ يوحنّا ٢١: ١٥-١٩). أَليس هذا ما أراد الإنجيليّ بخفر أن يمهّد له بقوله: «وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أوّلًا، ولكن لـمّا تمجّد يسوع، حينئذ تذكّروا أنّ هذه كانت مكتوبة عنه، وأنّهم صنعوا هذه له» (يوحنّا ١٢: ١٦)؟ هذا كلّه تكشّف للتلاميذ من بعد عيش خبرة شخصيّة في مواكبتهم آلام المسيح وقيامته، ولم تأتِ بثمار إلّا بعد معاناة وصبر وانقشاع بصيرتهم، وذلك بظهور الربّ لهم من بعد القيامة ثّم انسكاب النعمة عليهم في العنصرة.
اليوم تدقّ ساعتنا نحن! فالمؤمنون يريدون أن يعيشوا ما رسمته كنيستنا في طقوسها وليتورجيّتها، خصوصًا في الأسبوع العظيم والفصح. وهذا بدهيّ في حياة الكنيسة. ظروفنا الاستثنائيّة تطرح علينا أن نتعاطى مع واقع جديد بالكلّيّة. كيف يمكننا معالجته؟ هل ينفعنا الالتجاء إلى خبرة التلاميذ الصعبة خلال هذا الأسبوع؟ هلّا تأمّلنا في الخبرات الثلاث التي عبروا بها: أخذ المسافة من أحداث حياتنا، كما يحصل معنا اليوم في الحجر الصحّيّ؛ ثمّ القيام بجردة حساب شخصيّة، أي مراجعة الذات واكتشاف مواطن ضعفنا الروحيّ، وذلك على ضوء حرماننا من النعم الكثيرة، الروحيّة والمادّيّة، التي لربّما لم نشكر عليها كثيرًا؛ وأخيرًا، اختبار الانسحاق الذي يفرضه الجوّ العامّ والذي يجعل المرء يلتمس الربّ من عمق أعماقه؟
هل تعتقدون أنّ خوض هذه الخبرة يفيد خلاصنا أضعاف ما كانت خبرتنا ترفدنا به حتّى قبل حدوث الأزمة؟ هل تعتقدون أنّ هذه الخبرة، المريرة والقاسية، يمكنها أن تساعدنا على بناء معالم حياتنا الأبديّة منذ الآن؟ هل تعتقدون أن باستطاعة الربّ أن يثمّن خبرتنا هذه عبر تجديدنا وإطلاقنا لحمل بشراه إلى العالم؟ هل يمكننا أن نضبط ساعتنا على عقارب ساعة الله بحيث لا يفوتنا قصده من هذه الأحداث ولا الثمار المباركة التي نجنيها منها؟ هل يكفينا أن تتبلور أمامنا كيف ستكون ثمار جهادنا الحاليّ حتّى نصبر مؤقّتًا على حرماننا من عيش الخدم الكنسيّة؟ ربّ قائل: حقّ التلاميذ علينا أن نختبر اليوم ما اختبروه حينها، ليصْلَب عودنا وتتجدّد فينا روح المسيح ومحبّته وخدمته. ألعلّ هذا هو درب صليبنا اليوم وقيامتنا أيضًا؟
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: فيليبّي ٤: ٤-٩
يا إخوة افرحوا في الربّ كلّ حين وأقول أيضًا افرحوا، وليَظهَر حِلْمُكم لجميع الناس فإنّ الربّ قريب. لا تهتمّوا البتّة، بل في كلّ شيء فلتكن طلباتُكم معلومة لدى الله بالصلاة والتضرّع مع الشكر. وليحفظ سلامُ الله الذي يفوق كلّ عقل قلوبَكم وبصائرَكم في يسوع المسيح. وبعد أيّها الإخوة مهما يكن من حقّ، ومهما يكن من عفاف، ومهما يكن من عدل، ومهما يكن من طهارة، ومهما يكن من صفة محبّبة، ومهما يكن من حُسْن صيت، إن تكن فضيلة، وإن يكن مَدْح، ففي هذه افتكروا. وما تعلّمتموه وتسلّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ فبهذا اعملوا. وإله السلام يكون معكم.
الإنجيل: يوحنّا ١٢: ١-١٨
قبل الفصح بستّة أيّام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي مات فأقامه يسوع من بين الأموات. فصنعوا له هناك عشاء، وكانت مرتا تخدم وكان لعازر أحد المتّكئين معه. أمّا مريم فأخذت رطل طيب من ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال أحد تلاميذه، يهوذا بن سمعان الإسخريوطيّ، الذي كان مزمعًا أن يُسْلمه: لمَ لم يُبَعْ هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويُعطَ للمساكين؟ وإنّما قال هذا لا اهتمامًا منه بالمساكين بل لأنّه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يُلقى فيه. فقال يسوع: دعها، إنّما حفظَتْه ليوم دفني. فإنّ المساكين هم عندكم في كلّ حين، وأمّا أنا فلستُ عندكم في كلّ حين. وعلم جمع كثير من اليهود أنّ يسوع هناك فجاؤوا، لا من أجل يسوع فقط، بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من بين الأموات. فأْتَمَرَ رؤساء
الكهنة بأن يقتلوا لعازر أيضًا، لأنّ كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون فيؤمنون بيسوع. وفي الغد لمّا سمع الجمع الكثير الذين جاؤوا إلى العيد بأنّ يسوع آتٍ إلى أورشليم أخذوا سعف النخل وخرجوا للقائه وهم يصرخون قائلين: هوشعنا، مبارك الآتي باسم الربِّ، ملكُ اسرائيل. وإنّ يسوع وجد جحشًا فركبه كما هو مكتوب: لا تخافي يا ابنة صهيون، ها إنّ مَلِكك يأتيك راكبًا على جحش ابن أتان. وهذه الأشياء لم يفهمها تلاميذه أوّلًا، ولكن، لمّا مُجّد يسوع، حينئذ تذكّروا أنّ هذه إنّما كُتبت عنه، وأنّهم عملوها له. وكان الجمع الذين كانوا معه حين نادى لعازر من القبر وأقامه من بين الأموات يشهدون له. ومن أجل هذا استقبله الجمع لأنّهم سمعوا بأنّه قد صنع هذه الآية.