...

كلمة الراعي الدنو من يسوع ومعالم «المسافة الآمنة» منه في حياتنا

 

يسوع، في طريقه إلى أورشليم للمرّة الثالثة، دنا منه رجال مصابون بداء البرص. كانوا عشرة، وهم يعانون مرضًا جلديًّا معديًا، وتاليًا كانوا يعيشون حجرًا وقائيًّا ذا بُعدَين: الأوّل، اجتماعيّ-صحّيّ اتّقاء لانتشار العدوى؛ والثاني، دينيّ-أخلاقيّ اتقاء للنجاسة التي كانت تدمغ حاملي هذا المرض في التصوّر الدينيّ اليهوديّ. كان هذا المرض كفكَّي كمّاشة، جسديّ ونفسيّ، تعصر حياة الأبرص فلا تبقي لديه حصنًا يذود عنه، على اعتبار أنّ مرضه قصاص من الله، فلا بدّ من أنّه ساقط من عين الله. ما كانت تنتهي هذه المعاناة القاسية إلّا بأن يشهد الكاهن على تعافي المريض ويقدّم الذبيحة المطلوبة في هذه الحالة.

دنا هؤلاء العشرة من يسوع بمعرفة، فاستقبلوه عن بُعد ونادوه: «يا يسوع، يا معلّم، ارحمْنا» (لوقا ١٧: ١٣)17:13). ( Λουκ لا شكّ في أنّهم سمعوا عن أعماله المجيدة وشفائه أبرص (لوقا ٥: ١٢-١٦)، ولربّما وصلهم أنّ فيه تحقّقت العلامات الخاصّة بالمسيّا والتي من جملتها شفاء البرص (لوقا ٧: ٢٢). فدنوا منه برجاء مَن ينتظر الفرج من المعاناة على يد مَن اسمه يعني الخلاص.

استجابة يسوع لطلبهم كانت بأن أرسلهم إلى الكهنة: «اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة» (لوقا ١٧: ١٤). كانت الشريعة تقتضي بأن يحصل الأبرص على «براءة ذمّة» من كاهن شهادة على استعادته الصحّة. بهذا الطلب، اتّضع يسوع أمام هؤلاء وأمام المؤسّسة الدينيّة صاحب السلطة في هذا المجال، فلم يجرِ الشفاء المطلوب حتّى يلبّوا أمره السابق لأوانه إليهم. بالفعل، اتّضع هؤلاء البرص بدورهم أمام يسوع ولبّوا طلبه بالذهاب إلى الكهنة قبل أن يمثلوا إلى الشفاء. فكانت استجابتهم هذه علّة شفائهم من البرص ومن اللعنة المرتبطة به.

دنا هؤلاء العشرة من يسوع بإيمان ووضعوه تحت الامتحان بطلبهم معجزة. فامتحنهم يسوع بدوره في مسألة الشفاء التي سبقها امتحان تواضع (بأن يأخذوا كلمته على محمل الجدّ وإن كانت لا تلبّي حاجتهم المباشرة، أي الشفاء)، وامتحان طاعة (بأن يسمعوا كلمته ويعملوا بها)، وامتحان إيمان (بأن يذهبوا، قبل أن يشفوا، إلى الكهنة وكأنّهم شفوا).

نجح الجميع في هذا الامتحان الأوّليّ. كان الوجه الأوّل من مجمل حادثة حملت معها تعليمًا بالغًا لمسناه في طريقة الشفاء. لكنّ الحادثة لم تنتهِ عند هذا الحدّ، لا بل كانت لتبقى مجهولة إلى الأبد لو لم يدنُ واحد من هؤلاء العشرة من يسوع مرّة أخرى. كان لدنوّه هذا منه الفضل بأن يترك لنا «المعلّم» (كما نادوه في بدء الاستقبال) أفضل تعليم. بالفعل، جيّد أن تدنو من يسوع بمعرفة، وأن تدنو أيضًا منه بإيمان. ولكنّ هذا كلّه ليس سوى الأبجديّة الضروريّة والأساسيّة حتّى تتعلّم أن تدنو منه بشكر. فمعرفته والإيمان به لا نحياهما إلّا بالشكر.

بالفعل، عاد واحد إلى يسوع «يمجّد الله بصوت عظيم»، وكان «غريب الجنس»، «سامريّ» المنشأ، وهو «خرّ على وجهه عند رجلَيه شاكرًا له» (لوقا ١٧: ١٦-١٨). لقد عاد إلى الصواب! فإقراره بالإحسان وسجوده أمام المسيح ميّزا هذا العائد إلى الصواب ووضعنا أمام عبادة مقدَّمة لله. إنّها هذه العودة والسجود والشكران ما جعل من توبته أمرًا تميّز فيه على اليهود التسعة المتخلّفين عن اللحاق بركبه، أي الشفاء الحقيقيّ بالخلاص بالإيمان بيسوع. إنّه التنبيه البالغ اللهجة الذي يسجّله يسوع في مرمى اليهود عمومًا، وفي مرمانا نحن الذين نعتقد أنفسنا قريبين من يسوع لكوننا نحمل اسمه: «أَليس العشرة قد طهروا؟ فأين التسعة؟ أَلم يوجد مَن يرجع ليعطي مجدًا لله غير هذا الغريب الجنس؟» (لوقا ١٧: ١٧-١٨).

هكذا وضع يسوع التسعة الآخرين تحت المساءلة، أي أغلبيّتنا، لامتناعنا عن شكره، أو لقصورنا عن رؤية مصدر النعم في حياتنا، أو لاكتفائنا بأن تكون علاقتنا معه متوقّفة على مستوى تلبية حاجات، على أهميّتها. فبينما يذهب عنّا البرص الجسديّ، نختار أن نقيم في البرص الروحيّ أي في ما يبقينا في عزلة روحيّة عن يسوع، فلا نستغلّ أن يكون الخلاص من الداء الأوّل فرصة خلاصنا من الداء الثاني والأدهى، لا بل نبقى على «مسافة آمنة» (أي في ما نظنّ أنّنا في مأمن) من إقامة علاقة حقيقيّة، عباديّة وشكريّة، مع يسوع. والحال هذه أنّنا لن نسمع أبدًا في عمقنا قوله الذي يجدّدنا ويطلقنا من جديد إلى العالم: «قمْ وامضِ. إيمانك خلّصك» (لوقا ١٧: ١٩)، وإن ظنّنا أنّنا الأكثريّة (الرقم تسعة مقابل الواحد)، أو أنّنا الأقربون (اليهود مقابل السامريّ)، أو أنّنا نجحنا في الامتحان (الشفاء من العارض الحاليّ)، أو أنّنا مكتفون بواقع حالنا (أي مزاولة الحياة الطبيعيّة)، أو أنّنا نعتبر أنفسنا أنّنا فوق اعتبار المساءلة (لأنّ الخطر الظاهريّ قد زال)، أو أن عبادتنا كافية بالطريقة التي نقدّمها (أيًّا كانت). فهل سمعنا كيف يحذّرنا يسوع من زيف هذه الاعتبارات كلّها واعتيادنا عليها وتبنّيها عمليًّا في حياتنا؟ هلّا تعلّمنا أن نتخلّص من هذا البرص الروحيّ المؤذي دفعة واحدة، ليختم هو على صحّة جهادنا، ويرسلنا معافين، حاملين خلاصه، كشمعة مضيئة لإخوتنا التسعة، أترابنا في هذا العالم؟ أَلعلّ جائحة الكورونا تضعنا اليوم في هذه المصفاة الشكريّة، وتمنحنا مثل هذا الصفاء الروحيّ، فيتنقّى كلّ شيء فينا لمجد الله؟

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

   كلمة الراعي 

الدنو من يسوع 
ومعالم «المسافة الآمنة» منه في حياتنا