تصلنا الصلاة بالله، هي «الصِلَة» الشخصيّة به. عندما نقول إنّنا نُصلّي، نعني أنّنا نتكلّم مع الله ونقيم
علاقة معه، كما يكلّم الطفل أباه أو أمّه أو يتّصل بهما.
قوام الحياة المسيحيّة الصلاة الحارّة. بيد أنّنا، بحسب بولس الرسول «لسنا نعلم ما نصلّي لأجله كما
ينبغي» (رومية ٨: ٢٦). قد يظنّ بعض الناس أنّهم يعرفون «ما يصلّون» لأجله أو «كيف ينبغي».
لكن أوّل أمر نعرفه عن الصلاة، هو أنّنا لا نعرف طبيعتها! يعتقد الكثيرون أنّ الصلاة تشبه الجلوس في
حضن «بابا نويل» والطلب منه ما نريد!
في مقولة معبّرة، منسوبة إلى القدّيسة الكرمليّة المتصوّفة، تيريزا الأفيلاويّة (إسبانيا القرن ١٦)، تقول
فيها: «تُذرَف دموع كثيرة نتيجة الصلوات المُستجَابة أكثر من تلك التي لم تتمّ الاستجابة لها»! بكلام
آخر: كن حذرًا جدًّا ممّا تطلبه إلى الله، لأنّه قد يعطيك إيّاه! وإن لم يفعل، فذلك فقط لأنّه رحيم.
يرحمنا الله، في كثير من الأحيان، بعدم إعطائنا ما نطلبه. هذا ما كانت عليه الحال في العُلّيّة، يوم
العنصرة، حيث كان هناك تلاميذ يصلّون من أجل «ردّ المُلك إلى إسرائيل» (أعمال ١: ٦). تصوّروا،
هذا «الهمّ السياسيّ» كان يشغل بال بعض الرسل فيما هم منتظرون موعد الروح القدس. لكنّنا «لسنا
نعلم ما نصلّي لأجله كما ينبغي». هذا الأمر تعلّمه الرسل في العُلّيّة، كيف صار أثناء الصلاة، أن نزل
الروح القدس و«قاطع» صلاتهم تلك وأوقفها. وذلك بأنَّ «الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا يُنطق بها»
(رومية ٨: ٢٦). كلمة «يشفع فينا» في اللغة الأصليّة تعني «يقتحمنا»، أي يقاطع صلاتنا ليصحّح
اتّجاهها، لأنّنا «لسنا نعلم ما نصلّي لأجله كما ينبغي»! ما يعلّمه بولس هنا عن الصلاة، سبق أن اختبره
هو شخصيًّا، إذ يقول: «أُعطيتُ شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني، لئلّا أرتفع» (٢كورنثوس
١٢: ٧). لهذا السبب، صلّى بولس للخلاص من ملاك الشيطان: «من جهة هذا تضرّعت إلى الربّ
ثلاث مرّات أن يفارقني» (١٢: ٨). بينما أتاه جواب الله: «تكفيك نعمتي» (١٢: ٩)! يعطينا الله ما هو
كاف لنا. يستجيب الله لصلاة بولس بعدم إعطائه ما أراده! لأنّ الله أراد أن يعلّمه أنّ: «قوّتي في الضعف
تكمُل». هو أمرٌ لم يكن بولس يُدركه، لذلك، من تلك اللحظة توقّف بولس عن صلاته تلك. هناك بعض
الصلوات (الطلبات) التي يجب أن نتوقّف عنها بعد مدّة من الإلحاح! لأنّ الاستمرار بالإلحاح في بعض
الصلوات (أي أن نصلّي بحرارة من أجل كذا،…) لا يعدو كونه تعبيرًا عن إرادتنا الخاصّة! بينما جوهر
الصلاة الكتابيّة هو: «لتكن مشيئتك». توقّف بولس عن طلب الشفاء، تضرّع في طلبه ثلاث مرّات، ثمّ
«قاطع» الروح القدس صلاته، وأعلن له: «تكفيك نعمتي».
لمَ نصلّي إذًا؟ لا نصلّي لنحصل على ما نريد! بل نصلّي، لكي نضع أنفسنا في «مشيئة الله». إن لم يكنْ
أحدهم في «مشيئة الله»، هذا لن يقدر على أن يصلّي، لن يتقدّم في الحياة الروحيّة. أولويّة الصلاة هي
أن نُخضع ذواتنا لـ«مشيئة الله»، إحدى طرائق خضوعنا هي أن نصلّي في طلبها «لتكن مشيئتك».
الصلاة ضروريّة لتعليمنا، ويجب ألّا تُصبح الصلاة مجرّد تأكيد لإرادتنا ورغباتنا. هذا النوع من الصلاة
يجب أن يتوقّف فورًا!
ما القاعدة في الصلاة إذًا؟ لو كنتَ تصلّي من أجل أحدهم، استمرّ في ذلك إلى الأبد! أمّا إن كنت تصلّي
من أجلك، وبدأ ذلك يؤدّي بك إلى إحباط لا نهاية له، عليك أن تتوقّع عندها، أنّ الله لا يريدك أن تستمرّ
في هذه الصلاة.
هناك صلوات تُستجاب دائمًا، أو على الأقلّ، يستمع الله إليها بتعاطف. هكذا كانت صلاة سليمان: «أعط
عبدك قلبًا فهيمًا… لأميّز بين الخير والشرّ» (١ملوك ٣: ٩)، لنتبنَّ هذه الصلاة، بخاصّة أولئك الذين
لديهم التزامات تجاه الآخرين، كالأهل مثلًا. «أعطني قلبًا حكيمًا للتمييز»، هذه صلاةٌ يُسرّ بها الله دائمًا.
هذه صلاةٌ على المعلّمين، والكهنة أن يصلّوها أكثر…
يسوع نفسه، بحسب إنجيلَي متّى ومرقس، صلّى ثلاث مرّات ««يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عنّي هذه
الكأس» (متّى ٢٦: ٢٩؛ مرقس ١٤: ٣٦) ثمّ توقّف! هذه صلاة، حتّى يسوع نفسه، لن يكرّرها أكثر من
ثلاث مرّات! مثال يسوع يعطينا القاعدة للصلاة والتعليم: «لتكن مشيئتك، لا مشيئتي».
في آخر أحاديث المسيح مع رسله في العلّيّة قبل الصعود. كرّر يسوع عليهم مقولته، أنّه أفضل لهم، أن
يتركهم وينطلق إلى الآب: «خيرٌ لكم أن أنطلق».
لمَ أفضل للمؤمنين، أي لنا نحن أيضًا، أن يتركنا المسيح ويحرمنا من وجوده الملموس؟ لأنّه لو لم
يتركنا، لما قدرنا على اختبار طريقة «حضوره» المختلفة.
انطلاقًا من العنصرة، وفيض الروح القدس، لا يعود حضور المسيح خارجيًّا من بعد، بل يصير داخليًّا.
هو ما زال المسيح الشخصيّ، ولكنَّ حضوره يصير في داخلنا. هو داخليّ، شخص إضافيّ، يحيا داخل
قلوبنا. أي عندما أنعتقُ أنا إلى قلبي، هناك شخص يسوع، داخل قلبي بالفعل. شخص يسوع يأتي إلينا من
الآب بالروح القدس.
هذا هو سرّ الرجاء، أنّ المسيح، أبعد من حدود الزمان والمكان، ومن الشدائد والصعاب، صار ساكنًا
فينا، ونحن نحيا به. هو يؤكّد لنا اليوم، وغدًا، وإلى الأبد: «لا أترككم يتامى. إنّي آتي إليكم» (يوحنّا
١٤: ١٨).