...

ماذا يبقى من الإنسان؟

إذا أوكلت إلى امرئ السلطة، فهي تدبير لخدمة الإنسان، لا لتسخيره بشتّى الطرائق لخدمة القابض على تلك السلطة.

هذا الاستعمال المنحرف للمُلك، عاناه إيليّا النبيّ في صراعه الطويل مع آحاب، ملك إسرائيل، وإيزابل زوجته. وفي موت نابوت اليزرعيليّ جرت إحدى الجولات من ذلك الصراع المرير.

فقد كان لنابوت اليزرعيليّ، جار آحاب في قصره الثاني في يزرعيل، حقل ورثه أبًا عن جدٍ. طمع الملك بالحقل وحاول وضع اليد عليه، استبدالاً أو شراءً. لم تجدِ هذه المحاولات صدى عند نابوت الذي لم يكن همّه أمام كلّ المغريات المعروضة أن يحافظ لا على ارث آبائه، وحسب، بل على ألّا يفرّط بوصيّة واحدة من وصايا الشريعة التي تحظر عليه بيع الأرض (أمّا الأرض فلا تُبَع بتاتًا لأنّها لي الأرض وأنتم نزلاء وضيوف عندي، لاويّين ٢٥٢: ٢٣). رفض نابوت العرض الذي تقدّم به آحاب قائلًا للأخير: «معاذ الله أن أعطيك ميراث آبائي» (١ملوك ٢١: ٣).

العرض الذي قدّمه آحاب الملك، ردّ نابوت عليه، وما سبّبه جوابه لآحاب من حزن للأخير عاديّ، بشريّ للغاية. لكنّ تدخّل إيزابل قلَب المقاييس. أنّبت أوّلًا الملك على حزنه: «أأنت الآن تتصرّف كملك على إسرائيل؟» (١ملوك ٢١: ٧). أنّبته، لا لأنّ الملك لا يحزن، بل لأنّ البشر عندها، وهي الملكة وزوجة الملك وابنة ملك، أي وهي قابضة على السلطة، هي أنّ البشرَ لا يستحقّون أن نحسب لهم حسابًا، أو أن يؤرقونا، هم فقط لتأمين سلطان الملوك ورفاهيتهم والخضوع لهم.

من هذا المنطق المعوجّ، بدأ عمل تلك المرأة «أنا أعطيك كرم نابوت اليزرعيليّ» وعدت زوجها. فبدأت بحبك الدسائس لجارها المسكين. إذ وهي امرأة وثنيّة كانت تحارب عبادة الله لصالح عبادتها الكنعانيّة باستقدامها عبادة البعل وعشتروت إلى إسرائيل مع الكهنة الذين كانوا يستفيدون من الدعم، هي نفسها ادّعت أنّ نابوت جدّف على الله. في حين أنّ تاريخها، هي، يشهد أنّ التجديف على الله غايتها. حوّلت ما اقترفته في عمرها إلى شخص نابوت البريء، الذي كان همّه الحفاظ على تعليم الله وعدم التفريط به وألّا يفرط بالغالي فداء عن زائل.

للسيطرة من دون وجه حقّ على أرض نابوت اليزرعيليّ، أرسلت إيزابل، باسم زوجها الملك آحاب، إلى وجهاء يزرعيل لينادوا بالصوم وأن يحاكموا نابوت ابن مدينتهم، عبر شاهدي زور، بأن صاحب الكرم جدّف على الله. فيحاكم بالرجم حتّى الموت.

لو أنّ آلة تصوير كانت تصوّر آنذاك المشهد المرئيّ، لالتقطت خبرًا أنّ كافرًا جدّف على الله بشهادة شاهدَين، ونتيجة تجديفه جلب الويلات لمدينته. وأنّ شيوخًا وأشرافًا في المدينة لم يطيقوا لشدّة إيمانهم سماع هذا الكفر. فحكموا على المتّهم بالرجم حتّى الموت (تبعًا لتثنية الاشتراع ١٧: ٢-٧)، وتابوا عليه بالصوم، وأراحوا المدينة من شرّه وتجديفه.

هذا هو المشهد الذي لا بدّ من أن يذاع. لكنّ حقيقة الأمر، التي تختبي خلف المشهد المرئيّ هو أنّ هذا المقلب المدبّر ناتج:

أوّلا، من طمع ملك يملك الكثير لكنّه يستكثر على مواطنيه حقّ تملّك القليل.

ثانيًا، من ملكة تمارس الشرّ أمام الله وتلصقه بآخرين يعملون نقيض ما تتّهمهم به. تتصرّف وكأنّ بيدها الحياة والموت، منحت نفسها حقّ إزالة كلّ من يقف في طريق جشعها.

ثالثًا، من شيوخ وأشراف، بدلًا من أن يشهدوا للحقّ، تواطأوا مع الملكة لقتل البريء ظلمًا. هو ابن مدينتهم ولم يكن غريبًا عنهم. يعرفون إخلاصه لآبائه ولدينه. لكنّهم، مع ذلك، وقفوا إلى جانب الظلم بدلًا من أن يدافعوا عن ابن مدينتهم وعن الحق. كان سهلاً العثور في يزرعيل على أكثر من شاهدي زور، لكن، كان من الصعب العثور على من يتفوّه بالحقّ فيها. هل مسايرتهم الملكة ناجم عن الجزع من بطشها؟ أم عرفانًا بالجميل على منصب اعتلوه في عهدها؟ أم طمعًا بالمزيد من العطايا والمناصب؟ كلّ ذلك كان للمنتفعين أغلى من حياة إنسان قضى ظلمًا بمكيدة ارتضوا أن يتوافقوا على تمريرها.

بذريعة الحفاظ على كرامة الله، أرادت إيزابل باتّهام نابوت أن تقضي على كرامة الله وعلى من يكرّمه، وعلى أرضه. قتلت، في عيون مواطنيه، إخلاصه لربّه. جعلته سبب الكوارث في المدينة، قبل أن تقضي عليه. أرادت الله، بفعلتها هذه، داعمًا لخطيئتها وخبثها ومطيّة لمآربها.

كانت الأمور ستسير على ما دبّرته ايزابل. فقتلت، بيد أبناء يزرعيل، نابوت وأولاده خارج الأسوار (٢ملوك ٩: ٢٦). ثمّ دعت زوجها لينزل إلى الكرم ليدشّنه على دماء نابوت. لم يكن في برنامجها أن يحضر إيليّا ليفسد فظاعة خطيئتها. فكان من إيليّا وعد لآحاب ولإيزابل أنّهما سيواجهان المصير الذي لطالما رسماه لغيرهما.

خطيئة البشر «أن يجعلوا أنفسهم مثل الله» (تكوين ٣: ٥)، فكيف إذا تسرّب إليهم شبق السلطة والمال. فهذا يعطيهم وهم الألوهة الباطلة. ويعيثون في الناس ظلمًا وقهرًا. لقد لفت القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (†٣٩٧) إلى «أنّ الشرّ يتفاقم ذلك بأنّ آخاب كثر يولدون كلّ يوم ولن ترتاح منهم الأرض، لذا فإنّ نابوت ما زال ينبت في كلّ مظلوم»… ظهر إيليّا الذي هاجم ما اقترفته أيدي الحاكم. وعبر التاريخ ظهر رجال قدّيسون حاربوا بروح إيليّا كلّ ظلم يقع في الأرض. من يوحنّا المعمدان المحارب الأبرز للفساد، إلى الذهبيّ الفم الذي واجه الحكم الصادر بحقّ شعب أنطاكية، فأمبروسيوس نفسه الذي منع الأمبراطور ثيوذوسيوس من الاشتراك في القرابين ما لم يتب عن ظلم شعب تسالونيكي «فمهما كان احترام الأمبراطور كبيرًا فالله أولى، وليست محبّة الأسقف للأمبراطور لمحاباته بل لخلاص نفسه»… هؤلاء العظام كانوا هم الأقوى، فلم يدَعوا صاحب السلطة والمال يتمادى في بغيّه وظلمه.

عند تفاقم الظلم، لا بدّ من أن ينبري مَن ملأ روح الله عقله وقلبه، فينبّه، ويقرع جرس الإنذار، ويحاول ولو بكلمة، بموقف، بصرخة أن يوقف سيل الظلم الهادر. الأمر ليس سهلًا، ولكن متى كان الالتزام بالإنجيل بهذه السهولة؟ إذا وجد في العهد القديم رجال تنادي برفع الظلم، أليس من البدهيّ أن يكون التضامن والعدل، والسعي إليهما، مشروع كلّ جماعة العهد الجديد، لا مبادرة أشخاص حصرًا؟ صحيح أنّ نابوت مات مع سلالته، لكنّ وجود إيليّا وشجاعته وضعا حدًّا لآحاب، لمّا تاب (١ملوك ٢١: ٢٧)، عن التمادي في ظلم آخرين قد يلاقون المصير ذاته الذي لقيه نابوت لولا التوبة.

مأساة نابوت هي مأساة تحصل كلّ يوم من الدائرة الصغرى إلى الكبرى. فهل يجد نابوت اليوم إيليّا يردّ عنه الظلم بعد أن امتلأت المدينة شرًّا؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ماذا يبقى من الإنسان؟