...

لنقمْ إلى الحكمة!

 

 

 

رغم أنّ الربّ يسوع قد شفى بوضوح مجموعة من الناس من أنواع عدّة من الشلل (مرقس ٤: ٢٤؛ ٨: ٦)، لكنّ الأناجيل تُفرِد تفصيلًا أكبر لحالتين منها: المفلُوج الذي أُنزِل عبر السقف (مرقس ٢: ١-١٢؛ متّى ٩: ١-٨؛ لوقا ٥: ١٧-٢٦) والرجل المخلّع عند بركة بَيْت حَسْدَا (يوحنّا ٥: ١-١٥). كما يصدف أيضًا، أنّهما المناسبتان الوحيدتان اللتان يشير يسوع عبرهما إلى «خطايا» الشخص أثناء شفائه من الشلل «الجسديّ». وهكذا، يقول يسوع للرجل الذي دُلّي من السقف، «مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مرقس ٢: ٥)، وبعد شفاء المخلّع عند بركة بَيْت حَسْدَا، يحضّه قائلًا: «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضًا» (يوحنّا ٥: ١٤).

من الجدير بالملاحظة أيضًا، أنّنا لا نجد أيّة إشارة إلى «خطايا» المرضى الشخصيّة في جميع قصص الشفاء الأخرى، أي عندما يطهّر يسوع البُرص، أو يشفي العميان، أو خلال علاجه أنواعًا أخرى من الأمراض… هو لا يقول لحماة بطرس المحمومة، على سبيل المثال، «مغفورة لكِ خطاياكِ»، ولا يحضّ الشابّ المولود أعمى قائلًا له: «اذهب ولا تخطئ أيضًا». في الواقع، في هذه الحالة الأخيرة بالذات، ينفي الربّ ذلك على وجه التحديد، ويؤكّد أنّ مشكلة الأعمى لم تكن نتيجة خطاياه الشخصيّة « لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ» (يوحنّا ٩: ٣). باختصار، فقط في حالتَي الشلل الآنفتين، يشير يسوع إلى خطايا الناس الذين يشفيهم، حتّى إنّه يخاطب أحدهما بالكلمات الدقيقة عينها التي تحدّث بها إلى المرأة التي وقعت في الزنا: «لاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يوحنّا ٨: ١١).

يميل المرء إلى التساؤل عمّا إذا كان هناك سبب خاصّ لتمييز عمليّات شفاء الشلل وحدها بهذه الطريقة. رغم أنّ الأناجيل لا تعالج هذا السؤال على وجه التحديد، إلّا أنّ المرء يُطلب منه الاستفسار إذا لم يكن هناك، في هذا النوع من الإعاقة، بعض السمات التي ترمز بشكل خاصّ إلى الخطيئة. هل من الممكن أن يكون هناك جانب من جوانب الشلل عينه الذي يُعتبر رمزًا إلى الخطيئة، أو خاصّيّة معيّنة في هذا البلاء قد ترمز إلى خصائص الخطيئة؟

تبرز مسألة الرمزيّة هذه، بخاصّة، في حالة المخلّع عند البركة بسبب حوار يسوع المسجّل معه. يبدو سؤال الربّ للمخلّع: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» بديهيًّا، في إطار حقيقة أنّ المسكين كان يرقد في هذا المكان لمدّة ثمانية وثلاثين عامًا. وذلك بأنّ يسوع يعرف حالة المخلّع فقد «عَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَانًا كَثِيرًا». وحيث إنّه قام بالتحقّق مباشرة منه «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟»، بعبارة أخرى، كان هناك مجال كبير للشكّ في رغبة الرجل الحقيقيّة في الشفاء. إذ ربّما أصبح قلبه وروحه عاجزين وخمولين تمامًا كشلل جسده.

علاوة على ذلك، جواب المخلّع عن سؤال الربّ يسوع بالكاد يطمئن. عوضًا من الإجابة، على غرار الأعميين، «نعم، يا سيّد!» (متّى ٩: ٢٨)، يبدأ المخلّع على الفور في اختلاق الأعذار: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ، يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ» (يوحنّا ٥: ٧). هاكم جوابه!

دائمًا ما يكون خطأ شخص آخر، أو تقدّم شخص آخر عليه، لذا لم يتم شفاؤه بعد… لا يُلام إذًا، الضحية المسكين! لقد كان يرقد هناك عند بركة بيت حسدا منذ ما يقارب أربعة عقود، مستخدمًا العذر ذاته ليشرح لماذا، في مكان كان يتمّ فيه الشفاء بشكل متكرّر، لم يتمّ شفاؤه هو قطّ. عامًا بعد عام، كان يرقد هناك بالتسويف والتواني. يصبح الاستسلام أسهل مع طول الوقت. هو يصير أسلوب حياة. ما أبلغ دلالات هذا النصّ في إطار الأزمة الوطنيّة التي نتخبّط فيها منذ عقود! هي خطيئة مجتمع ووطن ابتُلي بالمُماطلة، والخمول، وانتظار المعجزات «السهلة»، وتقاذف المسؤوليّات، بالتواني فرادى وجماعات…!

يبدو إذًا، أنّ هذا هو الهدف من السؤال الذي يطرحه يسوع: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» ربّما، في أعماق قلبه، هو لا يريد أن يُشفى، ليس في الحقيقة، وربّما هذه هي الخطيئة التي يشير إليها يسوع عندما يقول له، «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضًا، لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ» (٥: ١٤). هل فعلًا نريد أن نخلُص، أم يتمحور جلّ اهتمامنا حول إلقاء اللوم على الآخرين؟ هلّا كففنا عن «روح البطالة» لِئَلّا يَكُونَ لنا أَشَرّ؟!

لذلك، عند شفاء الشلل، أعطى الربّ أمرًا مستقيمًا لا لبس فيه: «قُم احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ» (٥: ٨). إذا أراد هذا المخلّع أن يسير في طريق الربّ، فيجب أن يبدأ الآن. لا مزيد من الأعذار. يجب ألّا يتلكّأ مجدّدًا ولو لدقيقة واحدة أطول، ويجب ألّا يُطلق نظريّات حول العلاقة الغامضة بين النعمة الإلهيّة والمجهود البشريّ. يجب ألّا تقلق هذه الروح الخاملة ما إذا كانت في خطر الانزلاق إلى هرطقة شبه بيلاجيّة أو ما شابه! جلّ ما على المخلّع فعله، هو أن يقف على قدميه، ويضع سريره بعيدًا، وينهمك ماشيًا!

التحوّل (التوبة) نعمة، ولكنّه أمرٌ أيضًا. الحكمة، هي الأخرى هبة الله بالتأكيد، ولكن ما هي الخطوة الأولى التي نتّخذها لتحقيق الحكمة؟ هي الطاعة لأمر مؤكّد: «اِقْتَنِ الْحِكْمَةَ. اقْتَنِ الْفَهْمَ!» (أمثال ٤: ٥). فلنشبك أيدينا مع بعضنا البعض، ولنقف على أرجلنا منطلقين. لا مزيد من الاستلقاء، أو اختلاق الأعذار (التي عادة ما تشمل أشخاصًا آخرين يقع اللوم عليهم)، ولا مزيد من التنظير حول طبيعة الحكمة. فقط انهض واحصل عليها!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لنقمْ إلى الحكمة!