أتت والدة الإله مريم إلى يسوع هي وبعض أقاربه، فسمع الربّ يسوع بأنّ أمّه وإخوته يريدون أن يرَوه، فأجاب يسوع قائلًا: «إنّ أُمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله، ويحفظونها». (متّى ١٢: ٤٦-٥٠؛ مرقس ٣: ٣١-٣٥؛ لوقا ٨: ١٩-٢١). هل مشروع الله أن يجعل منّا عائلة أبنائه يشعر فيها كلٌّ منّا بقربه وبأنّه محبوب منه؟ هل مشيئة الله ألّا نكون عائلات منفردة، بل عائلة واحدة متضامنة في الأخوّة، الله أبوها؟ وهل هذا ينفي العلاقة الطبيعيّة في العائلة؟
قول الربّ هذا يُذكّرنا بأنّ أمّه «كانت تحفظ تلك الأمور كلّها في قلبها» (لوقا ٢: ٦٩). بمعنى آخر، بحفظ الكلمة وعيشها نصبح جميعًا عائلة الله. إنّها دعوة إلى القداسة. من يحفظ الكلمة هو من يعيشها بعدم التعلّق المرَضيّ بأمور هذه الحياة الأرضيّة للتركيز على النصيب الصالح (لوقا ١٠: ٤٢)، ألا وهو سماع كلمة الله وعيشها، وعدم التلهّي بأمور الحياة غير الأساسيّة: أطلبوا ملكوت الله وبرّه والباقي يزاد لكم (متّى ٦: ٣٣). لهذا، نجد أنّ والدة الاله مريم هي صورة القداسة الأولى في الكنيسة، فإنّها «آمنت بأنّه سيتمّ ما قيل لها من قبل الربّ» (لوقا ١: ٤٥). هكذا ربّاها أبواها القدّيسان يواكيم وحنّة على حفظ الكلمة وعيشها. عائلة الله ليست بالقربى البشريّة ولكن بالقربى الإلهيّة، بعيش القداسة وممارسة الفضائل. هكذا تكون حياة الإنسان مطوّبة. وهكذا حياة مريم العذراء (لوقا ١١: ٢٨).
من هنا نجد كلام الربّ يسوع: «كلّ من يحفظ كلمة الله ويعمل بها هؤلاء أمّي وإخوتي…»، لا ينفي تثبيت حياة العائلة لإكرام الأب والأمّ ومحبّة الأولاد، بل يوضح هدفًا آخر وأسمى للحياة العائليّة: عيش القداسة كأعضاء في عائلة الله. إنّ الزواج مشروع قداسة بالمسيح يسوع، والأولاد هم مشاريع قدّيسين وقدّيسات! ولا يوجد أيّ أمر في العائلة أهمّ من السعي نحو هذا الهدف الإلهيّ أي القداسة. إذًا، ليس هدف الزواج والعائلة الاكتفاء بإنشاء عائلة وتربية أولاد ونجاح عمل، أو بعاطفة بشريّة مقيّدة، بل بالإيمان بالربّ يسوع. فالواجب الأوّل والهدف هو أن ينشئوا أولادًا ليتهيّأوا ليكونوا أخوة وأخوات في عائلة واحدة، أسمى من رابطة علاقات القربى البيولوجيّة الضيّقة: عائلة الله، التي الله أبوها والكنيسة أمُّها، وأعضاؤها إخوة وأخوات يتعاطون مع بعضهم البعض بمحبّة وتضامن (أنظر متّى ٢٣: ٨-٩، لوقا ٢٦:١٤).
فالأسرة هي المكان الذي يمارس فيه الإنسان ما يُدعى بالفضائل، بالمحبّة، بالغفران، بالتضامن كمدخل لعيشها في العالم. في العائلة نتعلّم أن نفهم لغة بعضنا البعض، وهكذا أيضًا في عائلة الله تجمعنا لغة واحدة هي لغة الإيمان الواحد والليتورجيا والإفخارستيّا، رغم تعدّد ثقافاتنا ولغاتنا المحكيّة، ومستوياتنا الفكريّة والاجتماعيّة، ومن دون أيّ تمييز عرقيّ أو طبقيّ أو مناطقيّ. وفي العائلة تُختبر فضيلة المسامحة والغفران، ويتدرّب المرء على قَبول الآخر، لأنّه كثيرًا ما يختلف الإخوة في العائلة الواحدة. وهكذا نتمرّس علائقيًّا في العائلة على النظر إلى الآخر بتواضع ومحبّة، وعلى حفظ كلمة الله وعيشها.
هذا ما عبّر عنه أيضًا القدّيس بولس الرسول في مجمل رسائله التي وجّهها إلى الجماعات المسيحيّة في الأمبراطوريّة الرومانيّة مستعملًا صورة الحياة العائليّة، مستخدمًا في رسائله عبارات «أخ»، وأب، وابن، وأولاد، داعيًا ايّاها إلى أن تترك انتماءاتها الحزبيّة والقبليّة والإثنيّة والمصالح الشخصيّة، وأن تلتزم بولائها الكامل لعائلة الله (١كورنثوس ١٠:١)، «حيث الجميع واحدٌ في المسيحِ يسوع» (غلاطية ٢٨:٣)، وحيث تتجلّى صورة الأخوّة في التضامن بينهم جاعلة كلّ شيء مشتركًا (يتضامن بولس الرسول مع الذين يعانون من المجاعة في ٢ كورنثوس ٨ و٩). وكلّ ما يصيب أخ عضو في العائلة، يصيب العائلة كلّها أيضًا (١كورنثوس ٢٦:١٢). في عائلة الله، المسؤوليّة مشتركة.
وهذا يظهر ليس فقط في العهد الجديد (أعمال الرسل ٣٢:٤-٣٤)، ولكن أيضًا في شهادات كثيرة متنوّعة من حقبة الكنيسة الأولى. فعلى سبيل المثال، يردّد العلّامة ترتليانوس (توفّي السنة ٢٢٠ م)، بعد وصف تضامن المسيحيّين في ما بينهم كعائلة واحدة، مقولة شهيرة في أيّامه: «أنظروا كيف يحبّ المسيحيّون بعضَهم البعض!» أمّا الملك يوليانوس الجاحد (توفّي السنة ٣٦٣ م)، فقد أظهر يأسه من العمل على الحدّ من انتشار المسيحيّة في الأمبراطوريّة، بقوله إنّ هذا الانتشار سببه التضامن الأخويّ العائليّ الذي يظهره المسيحيّون ليس فقط في ما بينهم، بل أيضًا مع الغرباء. هذه شهادة التاريخ بعيش المسيحيّين وصيّة الربّ يسوع: «بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعضًا لبعض» (يوحنا ٣٥:١٣)، و««كلّ ما فعلتموه بأخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه» (متّى ٢٥: ٤٥).
هكذا ينتقل المؤمن من حالة بشريّة طبيعيّة إلى حالة حياة كنسيّة جديدة تسمو على حصريّة العلاقات البيولوجيّة وتتجاوزها. هذه الحالة الكنسيّة المنشودة تسودها محبّة إخوة، يولدون من رحم الكنيسة، ويرفعون الصلاة معًا إلى أبيهم السماويّ هكذا: «أبانا الذي في السماوات…» هذه هي الرؤية الإسخاتولوجيّة للكنيسة المرجو أن نحياها الآن وهنا. لذا، يُعامل أعضاءُ الكنيسة اليوم كجماعة جديدة تنتمي إلى عائلة واحدة كبيرة، عائلة الآب، وتلتزم بالوفاء إليها، فطلب منهم أن يحبّوا بعضهم بعضًا، وأن يكونوا متضامنين مع بعضهم البعض في كلّ أمور الحياة، مجسّدين كلام الربّ: «إنّ أُمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله، ويحفظونها». تبقى والدة الإله مريم الكلّيّة القداسة الصورة الأسمى لكلام الربّ، إذ بشفاعتها الحارّة والدائمة تساعدنا جميعًا على درب القداسة في الحياة مع الله.
عائلة« الله»